تعرف الاستراتيجية بأنها مجموعة السياسات والأساليب والخطط والمناهج المتبعة من أجل تحقيق الأهداف المسطرة في أقل وقت ممكن وبأقل جهد مبذول.

الانتصار الاسرائيلي الزائف
تقوم الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية والأمريكية في الشرق الأوسط على عنصرين رئيسيين: القوة والردع.
الهدف الاستراتيجي الرئيسي المعلن (لإسرائيل وبالتالي للولايات المتحدة) هو إقامة دولة إسرائيل الكبرى في الشرق الأوسط، وهي دولة يفترض أن تمتد لتشمل نصف مصر وكل فلسطين وكل الأردن وكل لبنان وكل سوريا وثلاثة أرباع السعودية وثلثي العراق تقريبًا.
يتطلب مجرد السعي الجاد لتحقيق هذا الهدف أن تكون ركيزتا الاستراتيجية الإسرائيلية (وهما القوة والردع) بارزتين لكافة المحيط العربي. فهذا المحيط لن يبدي أي قدر من التجاوب الذي يتيح التحقيق التدريجي للهدف دون أن يشعر بتأثير هاتين الركيزتين.
تغير الكثير فيما يتعلق بقدرة إسرائيل وبالتالي قدرة الولايات المتحدة على الردع بسبب اقتحام حماس لحدود قطاع غزة (وأنا هنا أتعمد أن أقول حدود قطاع غزة وليس حدود إسرائيل، لأن إسرائيل ليس لها حدود، مع ملاحظة أن الحدود السياسية هي مقوم هام من مقومات الدولة يسقط غيابه وجود الدولة سياسيًا).
قبل 7 أكتوبر كانت إسرائيل تتمتع بقدرة ردع كبيرة وغير معتادة لدول في حجمها، نتيجة لأسطورة الجيش الذي لا يقهر الذي تعمد مؤسسوها الاستعماريون خلقها مع إسرائيل.
وفي كل مرة كانت قدرة الردع الإسرائيلية تختبر كانت تأتي تعزيزات غربية – وفي الغالب أمريكية – لإثبات أن إسرائيل قادرة على الردع.
حتى في حرب أكتوبر 1973، رغم الهزيمة الإسرائيلية المحققة، إلا أن التدخلات الأمريكية المخابراتية والعسكرية والسياسية كانت حريصة على الحفاظ على قدرة الردع الإسرائيلية.
حتى الهزيمة أمام حزب الله والهروب من لبنان عام 2006 لم يؤثرا كثيرًا على قدرة الردع الإسرائيلية.
ولكن حرب غزة امتدت لأكثر من 16 شهرًا متواصلة، تخللها هدنات قصيرة أعيد فيها تسليح الجيش الإسرائيلي بأكثر الأسلحة فتكًا وتدميرًا، وحاربت إلى جانب إسرائيل قوات من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، أرسلت الولايات المتحدة منذ بداية الحرب حاملة طائرات ومدمرتين و2000 جندي مارينز زعمت أنهم سيبقون في السفارة للمساعدة في أعمال التجسس ثم سحبتهم عندما سقط بعضهم قتلى في الاشتباكات الأولى.
ومن الواضح أن بعض طلعات الطيران التي هاجمت غزة كانت تتحرك من حاملة الطائرات الأمريكية، كما هاجمت الولايات المتحدة جبهة الإسناد في اليمن.
وأرسلت بريطانيا منذ اليوم الأول مدمرتين وقامت طائراتها – بشكل معلن – بطلعات استطلاع فوق غزة وشاركت بقوة مرتزقة في القتال البري وكذلك فعلت فرنسا.
ووضعت ألمانيا سلاح الطيران الألماني بالكامل تحت تصرف إسرائيل.
ولم يفلح كل هذا في إلحاق هزيمة واضحة بمجموعة عسكرية صغيرة (هي حركة حماس) لم يكن عدد أفرادها المقاتلين في بداية الحرب يتجاوز 3000 مقاتل.
أهدر هؤلاء المقاتلون هيبة الجيش الإسرائيلي باقتحام مجموعة منهم 11 موقعًا عسكريًا ومخابراتيًا وموقعين للاستيطان العسكري، حيث استولوا على كم كبير من المعدات العسكرية والمخابراتية ومعدات التجسس والمركبات الحديثة، وقتلوا حسب رواية الجيش الإسرائيلي نحو 600 مقاتل من فرقة غزة سيئة السمعة، التي اعتادت القيام بممارسات عسكرية تستهدف إذلال الفلسطينيين في غزة، وأسروا 240 أسيرًا أُخذوا جميعًا من داخل وحدات الجيش أو من المستوطنات العسكرية.
ورغم كم الدمار الكبير الذي أحدثته وتحدثه الحرب، لم يتمكن الجيش الإسرائيلي – المدعوم أمريكيًا وأوروبيًا – من استعادة قدرته على الردع.
وتسبب طول الحرب في استهانة أطراف أخرى بالردع الإسرائيلي وانضمامها إلى الحرب، ومنها حزب الله في لبنان وجماعة أنصار الله في اليمن والجماعات الشيعية المقاومة للاحتلال الأمريكي في العراق.
ربما كان العنصر الرئيسي الذي أسقط قدرة الردع الإسرائيلية بشكل نهائي هو الغباء السياسي والعسكري في تحديد أهداف الحرب، ليتبين في النهاية أنها أهداف مستحيلة التحقيق.
لو كانت إسرائيل وافقت على صفقة تبادل سريعة استتبعتها بعملية انتقامية محدودة، ربما كانت حافظت على قدرة الردع قليلًا، ولكن الواقع أن الحرب أسقطتها بشكل نهائي.
اقرأ أيضًا
أشرف الشرقاوي يكتب: «شروط إسرائيل كذريعة لاستكمال الإبادة»
فإذا كانت حركة بحجم حماس ومعها بعض الحركات الأصغر تحقق نجاحات في القتال ضد الجيش الإسرائيلي على مدار نحو عام ونصف تقريبًا، فلا شك أن أي جيش صغير يستطيع أن يفعل ما هو أكثر إذا كان مستعدًا للقتال وإذا لم تصدر له أوامر بالانسحاب.
تسببت حرب غزة أيضًا في تحطيم الإيهام الإسرائيلي الأمريكي بخصوص قوة إسرائيل العسكرية.
استخدمت إسرائيل قدرًا من القوة كان كفيلًا بتدمير قارة كاملة في التعامل مع غزة التي تزيد مساحتها قليلا عن 300 كيلومتر مربع، وكان يفترض في هذه القوة أن تكون مرعبة بطريقة تجعل جماهير الفلسطينيين في غزة تهرول إلى الهروب إلى خارج الحدود، ولكن لحسن الحظ، وربما لحسن التخطيط أيضًا، لم يهرول الفلسطينيون إلى الهروب؛ بل وأبدوا قدرًا كبيرًا من رباطة الجأش؛ وفي كثير من الأحوال قدرا من الندية، رغم الأسلحة البدائية المتاحة لهم، في مواجهة هذه القوة الغاشمة.
والآن يحاول الأمريكيون والإسرائيليون باستخدام أساليب إعلامية معروفة إعادة الإيهام السابق ومسح الهزيمة الإسرائيلية من الوعي العربي.
يدرك ترامب ونتنياهو جيدًا أن إسرائيل ليست في موقف تملي فيه شروطها. ورغم ذلك يلاحقون الإعلام الدولي بتصريحات متتالية عن فتح باب الجحيم، وحضور العفريت الأمريكي بنفسه لدعم إسرائيل – كأنه لم يكن موجودًا فيما سبق – وعن إخلاء غزة، وعن رغبة ترامب في تملك غزة، وعن الاستثمار العقاري في غزة، وعن تحول غزة إلى مكان غير قابل للحياة، وعن توطين أهل غزة في مصر والأردن أو في السعودية.
كل هذه التصريحات المتتالية تتسبب في نوع من الارتباك للإعلام الدولي الذي أصبح غير قادر على تغطيتها بشكل احترافي وتوضيح أنها أولًا جريمة حرب، وثانيًا مستحيلة التنفيذ لأن الفلسطينيين أصحاب الشرعية.