في لحظة فارقة من تاريخها الحديث، تجد أوروبا نفسها في مواجهة أزمة ديموغرافية متفاقمة تنذر بتحولات جذرية في بنيتها السكانية والاقتصادية والاجتماعية، وبينما ينخفض عدد المواليد بشكل حاد، ويزداد عدد كبار السن بوتيرة غير مسبوقة، تبدو القارة العجوز وكأنها تسير بخطى ثابتة نحو مأزق سكاني قد يعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي والسياسي العالمي.
أوروبا على حافة الانقراض السكاني
تشير أحدث بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي “يوروستات” إلى أن عام 2023 سجّل أدنى معدل مواليد في تاريخ الاتحاد الأوروبي منذ عقود، بانخفاض قدره 5.4% مقارنة بالعام السابق. كما انخفض متوسط الخصوبة إلى 1.38 طفل لكل امرأة، وهو رقم بعيد تمامًا عن المعدل اللازم (2.1) لتحقيق توازن سكاني مستدام.
وتُقدّر دراسات مستقبلية أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي قد ينخفض بنسبة تصل إلى 6% بحلول عام 2100، ما يعادل فقدان أكثر من 26 مليون نسمة – رغم استمرار تدفقات الهجرة. أما في حال توقفت الهجرة تمامًا، فإن القارة قد تخسر ما يقرب من ثلث سكانها، وهو سيناريو كارثي بكل المقاييس.
أوروبا.. تداعيات اقتصادية واجتماعية عميقة
هذا التراجع السكاني لا يهدد فقط التوازن العددي بين الأجيال، بل ينعكس مباشرة على سوق العمل، حيث تتقلص القوى العاملة بشكل مستمر، مما يؤدي إلى فجوات كبيرة في قطاعات حيوية. كما يشكل ارتفاع أعداد كبار السن ضغطًا هائلًا على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية، وهو ما قد يضطر الحكومات إلى اتخاذ إجراءات تقشفية مثل رفع الضرائب أو تقليص الإنفاق على الخدمات الاجتماعية.
وتؤكد التقارير أن دولًا كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بدأت بالفعل في فقدان المليارات سنويًا نتيجة تقلص عدد السكان النشطين اقتصاديًا، فيما تشهد المناطق الريفية انحدارًا متسارعًا مع تراجع عدد السكان، وإغلاق المدارس، وتدهور البنية التحتية.
أزمة المواليد تفتح أبواب الكارثة في أوروبا
وسط هذا الواقع المقلق، أصبح الحديث عن قبول المهاجرين لا يتعلق فقط بالأبعاد الإنسانية أو الجيوسياسية، بل بات مسألة بقاء اقتصادي واجتماعي. ووفقًا لما نشرته صحيفة الكونفيدينثيال الإسبانية، فإن الدول الأوروبية بحاجة ماسة إلى الهجرة المنظمة لتعويض نقص العمالة والحفاظ على توازن الأسواق.
لكن رغم هذه الحاجة الملحة، تواجه سياسات الهجرة معارضة شديدة من تيارات اليمين المتصاعد، ما يجعل إيجاد توازن بين الضرورة الاقتصادية والتحديات السياسية أمرًا بالغ التعقيد.