في تطوّر غير مسبوق داخل المعادلة الغربية، باتت إسبانيا تمثّل استثناءً لافتًا بين دول أوروبا، بعد أن اختارت علنًا الوقوف على مسافة من السياسات الأمريكية، متحدّية توجهات واشنطن الدفاعية والتجارية، في لحظة تشهد تصاعدًا في التوترات بين الحلفاء التقليديين داخل الناتو.
في خطوة اعتُبرت تحديًا مباشرًا للولايات المتحدة، أعلنت الحكومة الإسبانية مؤخرًا تراجعها عن خطط لشراء مقاتلات “إف-35” الأمريكية، مفضّلةً تعزيز التعاون الصناعي مع الشركاء الأوروبيين، في سياق أوسع تسعى فيه مدريد إلى إعادة تشكيل أولوياتها الدفاعية والاقتصادية بعيدًا عن الإملاءات الأمريكية.
إسبانيا تُشهر ورقة الاستقلال
كما امتنعت إسبانيا عن الالتزام بهدف الإنفاق الدفاعي الجديد لحلف شمال الأطلسي، البالغ 5% من الناتج المحلي، ما أثار ردود فعل غاضبة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لوّح بعقوبات تجارية صارمة.

ورغم تحذيرات ترامب من أن “الاقتصاد الإسباني قد يُسحق” إذا لم تغيّر مدريد توجهاتها، لم تتراجع الحكومة بقيادة بيدرو سانشيز، الذي يبدو عازمًا على رسم سياسة خارجية أكثر استقلالية، حتى لو تطلّب الأمر مواجهة مفتوحة مع البيت الأبيض.
إسبانيا تتحرر اقتصاديًا
يقول فيديريكو سانتي، المحلل البارز في مجموعة أوراسيا، إن إسبانيا اليوم “الدولة الأوروبية الوحيدة التي تُعارض ترامب علنًا”، بينما تفضل معظم العواصم الأوروبية تجنّب الصدام معه. ويرى أن هشاشة التحالف اليساري الحاكم في إسبانيا، وتورطه في أزمات داخلية وفضائح فساد، تدفع سانشيز إلى استخدام ملفات الدفاع والعلاقات الدولية لصرف الأنظار عن أزماته، مستفيدًا من الغطاء السياسي الذي توفّره عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي.

في هذا السياق، برز أيضًا توجّه إسباني واضح نحو تعزيز العلاقات مع الصين، في خطوة زادت من توتير العلاقات مع واشنطن. فقد منحت مدريد عقدًا بملايين اليوروهات لشركة “هواوي” الصينية لتوريد تقنيات الاتصالات، متحدّيةً الضغوط الأمريكية المتزايدة لعزل بكين تقنيًا واقتصاديًا. وهو ما وصفته الباحثة كريستينا كاوش من صندوق مارشال الألماني بـ”التحرك المثير للقلق”، رغم اعترافها بأنه يعكس مزاجًا أوروبيًا عامًا لإعادة التوازن في العلاقات الاستراتيجية.
إسبانيا تواجه أمريكا اقتصاديًا
ومع توقيع اتفاق تجاري جديد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يفرض رسومًا جمركية موحّدة بنسبة 15% على واردات أوروبا، استفادت إسبانيا من الموقف التفاوضي الموحد لبروكسل، في حين تعرّضت دول مثل سويسرا، غير العضو في الاتحاد، لرسوم وصلت إلى 39%، ما يعزز وجهة النظر القائلة إن مدريد تستمدّ قوتها من إطار الحماية الأوروبي، الذي يسمح لها بالمناورة مع واشنطن دون تكلفة فورية كبيرة.

إجناسيو مولينا، الباحث في معهد “إلكانو” الملكي بمدريد، يربط هذا التوتر بتقاليد السياسة الخارجية الإسبانية، التي ظلت تاريخيًا أقل التصاقًا بالمحور الأطلسي، وأكثر انخراطًا في الرؤية الأوروبية المستقلة. ويضيف أن البعد الجغرافي عن روسيا، وتاريخ إسبانيا الطويل مع الولايات المتحدة، الذي يعود إلى حرب 1898، ساهما في صياغة علاقة “أقل حساسية” مع واشنطن، بالمقارنة مع دول مثل بولندا أو دول البلطيق.

وفي حين يرى البعض أن ما تقوم به إسبانيا هو إعادة تموضع واقعية في عالم متعدد الأقطاب، يرى آخرون أن هذا النهج محفوف بالمخاطر، خاصة في حال تغير ميزان القوى داخل الاتحاد الأوروبي، أو صعود تيارات أكثر ميلاً للولايات المتحدة داخل الناتو.
اقرأ أيضا.. ترامب يتعهد بالضغط على بوتين لوقف الحرب خلال قمة ألاسكا
وبينما يراهن سانشيز على موقعه داخل الاتحاد الأوروبي لدرء تداعيات محتملة، تشير التقديرات إلى أن المواجهة مع واشنطن لم تبلغ ذروتها بعد، وأن “الحياد الإيجابي” الذي تحاول مدريد تبنيه قد لا يصمد طويلًا إذا قررت الولايات المتحدة ترجمة تهديداتها إلى إجراءات اقتصادية فعلية.