منذ أن فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حظرًا صارمًا على شراء واستيراد النفط الروسي أواخر عام 2022، لجأت موسكو إلى وسيلة غير تقليدية للتحايل على العقوبات، عبر إنشاء ما يُعرف بـ “الأسطول الشبح”، وهو شبكة من السفن القديمة والمموهة التي تُغيّر أسماءها وأعلامها باستمرار لنقل النفط الروسي إلى وجهات مختلفة، حيث يُعاد تصديره بعد تكريره أو خلطه بنفط من مصادر أخرى.
تحقيق موسّع نشرته مجلة “لوبس” الفرنسية كشف خيوط هذه الشبكة السرية، منطلقًا من حادثة احتجاز البحرية الفرنسية لناقلة نفط تُدعى “بوراكاي”، كانت ترفع علم بنين في أواخر سبتمبر/أيلول 2025، وهي محمّلة بالنفط الروسي.

ناقلة “بوراكاي”: بداية خيط يكشف إمبراطورية تهريب نفطي
وفق التقرير، اقتيدت السفينة إلى ساحل سان نازير غربي فرنسا بعد أن لاحظت السلطات تناقضات في بيانات تسجيلها وجنسيتها، حسبما أوضح المدعي العام في مدينة بريست.
وأثار الحادث رد فعل غاضبًا من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وصف العملية بأنها “قرصنة بحرية”.
وتم احتجاز قائد السفينة الصيني، الذي سيُحاكم في فبراير/شباط 2026 بتهمة “الرفض البسيط للامتثال” بعد أن توقفت رحلته بين ميناء قرب سان بطرسبورغ ومدينة فادينار الهندية، حيث توجد مصفاة تملك شركة مرتبطة بـ “روسنفت” الروسية نسبة 49% منها.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تُحتجز فيها “بوراكاي”، إذ سبق أن اعترضتها السلطات الإستونية في أبريل/نيسان 2025، بعدما أُدرجت على قوائم العقوبات البريطانية والكندية والأوروبية، ما يمنعها من الرسو في موانئ تلك الدول.
أسطول من السفن القديمة بأسماء وعناوين مزوّرة
تُظهر الوثائق أن ناقلة “بوراكاي” غيّرت اسمها خمس مرات في غضون ثلاث سنوات، ورفعت أعلامًا لدول مختلفة بينها منغوليا، الغابون، جيبوتي، وبنين.
وتشير التحقيقات إلى أن تسجيلها في بنين مزوّر، فيما يرى خبراء أن هذه الممارسات أصبحت أداة رئيسية بيد موسكو لإخفاء هوية السفن الروسية وتهريب النفط بعيدًا عن أعين الغرب.

وقالت كلير باولوس، مديرة الشؤون الدولية في شركة “لستير” الفرنسية لتحليل مخاطر النقل البحري، إن “تزوير الأعلام وتغيير هوية السفن أسلوب شائع لإخفاء المالك الحقيقي والتهرب من العقوبات”.
وأوضحت الشركة أن السفينة فشلت في عدة عمليات تفتيش خلال السنوات الثلاث الماضية، وتفتقر لتأمين موثوق، كما عطلت نظام التتبع البحري خمس مرات منذ أغسطس/آب الماضي، ما يزيد من الشكوك حول نشاطها.
شركات وهمية وملاذات ضريبية لإخفاء المالك الحقيقي
وفق تحقيق “لوبس”، فإن المالك الحالي للسفينة شركة غامضة تدعى “باج شيبينغ ليميتد”، مسجّلة في سيشل، بينما تم شطب المالك السابق “تيراد شيبينغ” من السجل التجاري في موريشيوس بسبب علاقاته بكيانات خاضعة للعقوبات.
وتُظهر الوثائق أن موسكو استثمرت أكثر من 10 مليارات دولار منذ عام 2022 لتكوين أسطول ضخم يضم بين 500 و900 ناقلة نفط تعمل خارج نطاق الرقابة الغربية، وغالبًا ما تُدار هذه السفن عبر شركات واجهة مسجلة في ملاذات ضريبية وتُبحر تحت أعلام دول صغيرة، لتفادي الرقابة الدولية.
طرق التحايل: تبديل الأعلام وإطفاء أجهزة التتبع
تستخدم السفن الشبحية الروسية تكتيكات متعددة مثل إيقاف أنظمة التتبع (AIS) عند عبور الممرات الحساسة، أو نقل النفط بين سفينتين في عرض البحر لإخفاء مصدر الشحنة، وتُنقل هذه الشحنات عادة إلى تركيا، الصين، والهند، حيث يتم تكرير النفط الروسي وخلطه قبل إعادة تصديره إلى أوروبا بصورة غير مباشرة.
ويقول جوليان فيركوي، الخبير في الاقتصاد الروسي بمعهد اللغات والحضارات الشرقية في باريس: “موسكو تستخدم نفس الأساليب التي لجأت إليها إيران وفنزويلا عندما واجهتا عقوبات مشابهة.”

تجسس تحت غطاء النفط؟
لم تقتصر الشبهات على تهريب النفط فحسب، إذ تشير تقارير أمنية إلى أن بعض هذه السفن قد تُستخدم أيضًا كمنصات تجسسية، ففي 22 سبتمبر/أيلول 2025، اشتبهت السلطات الدنماركية في أن ناقلة “بوراكاي” استُخدمت لإطلاق طائرات مسيّرة تجسسية فوق مطار كوبنهاغن.
ويقول الأدميرال الفرنسي بونوا دو غيبير إن هذا الأسطول يستفيد من ثغرات القانون البحري الدولي وغموض قطاع الشحن، موضحًا أن نحو 10 سفن من هذا الأسطول تمر يوميًا عبر بحر المانش وبحر الشمال دون رقابة فعالة.
اقرأ أيضًا:
إعادة إعمار غزة| دول كبرى تعلن استعدادها للمساهمة بتكلفة تُقدّر بـ 70 مليار دولار
من إسرائيل إلى اليونان فدبي.. رحلة “بوراكاي” عبر الأسماء والأعلام
بدأت قصة السفينة حين كانت مملوكة لرجل أعمال إسرائيلي باسم “أوديسيوس”، ثم اشتراها مالك يوناني رفع عليها علم سانت كيتس ونيفيس، قبل أن تُباع لشركة هندية غامضة تُدعى “غاتيك شيب مانجمنت”.
وبعد تضييق العقوبات على الشركة، نقلت ملكية السفن إلى شركات واجهة في تركيا ودبي، وتبدّلت أعلامها أكثر من مرة حتى استقرت مؤخرًا في بنين، قبل أن تُحتجز في فرنسا.

حرب الظل في البحار
تكشف قضية “بوراكاي” عن جانب خفي من حرب اقتصادية عالمية تدور في البحار، حيث تستخدم موسكو شبكة معقدة من السفن الوهمية وشركات الواجهة لتجاوز العقوبات الغربية والحفاظ على تدفق عائدات النفط، التي تشكّل العمود الفقري لاقتصادها.
ويرى الخبراء أن مواجهة هذا الأسطول الشبح الروسي تحتاج إلى تعاون دولي حقيقي وإصلاحات في نظام القانون البحري العالمي، وإلا ستظل العقوبات مجرد حبر على ورق في مواجهة شبكة بحرية تعمل في الظل بكفاءة وجرأة غير مسبوقتين.