شبه جزيرة القرم ليست مجرد أرض متنازع عليها بين موسكو وكييف، بل هي مركز صراع جيوسياسي يشكّل منذ سنوات جوهر الأزمة الروسية الأوكرانية، وباتت عنواناً رئيسياً لمعركة النفوذ بين الشرق والغرب.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد على سيطرة روسيا عليها عام 2014، فإن القرم ما زالت تمثل “العقدة الأكبر” أمام أي تسوية سلمية محتملة، خاصة بعدما تحولت إلى ساحة مواجهة عسكرية محورية في الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط 2022.

الموقع الجغرافي والبعد الاستراتيجي
تكمن أهمية شبه جزيرة القرم في موقعها الجغرافي الفريد على البحر الأسود، حيث تشكّل “البوابة البحرية” الحيوية للممرات الملاحية العالمية، وتتحكم في طرق التجارة الدولية، خصوصاً صادرات الحبوب والطاقة التي تُعد شريان حياة لاقتصادات أوروبا وآسيا.
ولا تقتصر الأهمية على الاقتصاد فحسب، بل تمتد إلى الجانب العسكري، إذ يحتضن ميناء سيفاستوبول مقر أسطول البحر الأسود الروسي، وهو قاعدة بحرية تمنح موسكو نفوذاً استراتيجياً نحو المتوسط والشرق الأوسط.
خلفية تاريخية معقدة
تعود جذور الأزمة إلى القرن الـ18، حين ضمت الإمبراطورية الروسية القرم.
وفي عام 1954، نقل الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف الإدارة إلى أوكرانيا السوفياتية، وهو قرار ظل يثير الجدل حتى انهيار الاتحاد السوفياتي.
منذ ذلك الحين، تحولت القرم إلى ساحة صراع نفوذ بين كييف وموسكو.
أزمة 2014: نقطة التحول
في مارس/آذار 2014، استغلت روسيا الاضطرابات السياسية في كييف بعد الإطاحة بالرئيس الموالي لها فيكتور يانوكوفيتش، ونفذت قوات خاصة عملية سيطرة خاطفة على القرم.
تبع ذلك تنظيم استفتاء سريع للانضمام إلى روسيا، رفضته أوكرانيا والغرب واعتبروه “غير شرعي”.
لكن في الداخل الروسي، مثّل الحدث ذروة قومية عززت شعبية الرئيس فلاديمير بوتين إلى مستويات قياسية بلغت 86%.
تداعيات الضم وانفجار الحرب في دونباس
أشعل ضم القرم مواجهة أوسع في شرق أوكرانيا (دونباس)، حيث اندلعت حرب بين القوات الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من موسكو.
في المقابل، واجهت روسيا عقوبات غربية قاسية وعزلة سياسية غير مسبوقة منذ الحرب الباردة.
ويرى محللون أن إخفاق موسكو في استكمال السيطرة على أوكرانيا عام 2014 مهد الطريق لتصاعد التوتر وصولاً إلى الغزو الشامل عام 2022.
القرم بعد 2022: من منصة انطلاق إلى جبهة قتال
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية الشاملة، تحولت القرم إلى قاعدة انطلاق رئيسية للقوات الروسية نحو جنوب أوكرانيا.
كما سعت موسكو إلى تأمين “الممر البري” الرابط بين القرم والأراضي الروسية عبر السيطرة على دونيتسك ولوهانسك وزابوريجيا وخيرسون.
اقرأ أيضًا:
الضمانات الأمنية لـ أوكرانيا محور قمة البيت الأبيض بمشاركة ترامب وزيلينسكي وزعماء أوروبا
لكن كييف ردت باستراتيجية غير مسبوقة استهدفت قلب القرم، من ضربات متكررة على جسر كيرتش الاستراتيجي، إلى هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ على أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول، ومستودعات الذخيرة والقواعد الجوية، ما حوّل المنطقة إلى جبهة مفتوحة.
القرم في طريق التسوية السياسية
اليوم، تقف القرم كأكبر عقبة أمام أي مفاوضات سلام:
موسكو تشترط اعتراف كييف بضم القرم كجزء من أراضيها، إضافة إلى القبول بضم أربع مناطق أخرى احتلتها عام 2022، والتخلي عن الانضمام لحلف الناتو، والتزام الحياد العسكري.
كييف ترفض هذه المطالب تماماً، وتصر على أن “السيادة ليست قابلة للتفاوض”، مؤكدة أن القرم أرض أوكرانية مسروقة يجب استعادتها.
تظل شبه جزيرة القرم أكثر من مجرد “جغرافيا متنازع عليها”، فهي رمز استراتيجي وعسكري وقومي لموسكو، وفي الوقت نفسه مفتاح السيادة الوطنية بالنسبة لكييف.
وبين هذين الموقفين المتناقضين، تبدو القرم “الحجر الأصعب” في أي معادلة لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية، لتبقى المنطقة مركز الصراع الدولي وورقة تفاوضية لا يمكن تجاوزها.