سياسة إسرائيلية وليست انتقامًا – بعد عشرات الآلاف من القتلى الذين سقطوا شهداء في غزة، ربما يثور لدى البعض سؤال حول كمّ الدماء التي يمكن أن تكتفي إسرائيل بسفكها من دماء الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين.
ولماذا تسفك الدماء بهذه الطريقة أصلًا، وهي تدرك تمامًا أن هؤلاء الشهداء ليسوا رقمًا مؤثرًا في الجماعات المقاومة الفلسطينية، لأنهم محايدون، مدنيون، عُزّل لا يحملون السلاح ولا ينوون حمله، بل وليس في استطاعتهم حمله. لماذا تنتقم إسرائيل من هؤلاء وليس من المقاومين؟
سياسة إسرائيلية وليست انتقامًا
والواقع أن المسألة ليست انتقامًا، ولكنها سياسة إسرائيلية ثابتة، يتحدثون عنها في الإعلام الإسرائيلي وفي الدوائر الإسرائيلية كثيرًا وبشكل علني.
ويقوم الفكر السياسي والعسكري الإسرائيلي على فكرة أنه في حالة تعرض إسرائيل لأي هجوم، حتى لو كان صغيرًا، يجب أن يُقابَل بكمٍّ كبير من التدمير وأعداد مروعة من القتلى والجرحى والمعاقين، إلى الحد الذي يجعل الطرف الذي ارتكب الهجوم يظن أن الإسرائيليين أصيبوا بالجنون.
والهدف من ذلك هو خلق حالة من الردع لكل من قد تخوّل له نفسه مهاجمة إسرائيل. ففي كل مرة سيفكر أحدهم في شنّ هجوم، سيتذكر أو سيذكّره آخرون بأن الهجوم السابق تسبب في كمٍّ لا يُستهان به من الخسائر في الأرواح وتدمير الممتلكات، فيكون في ذلك رادع له ولغيره عن شنّ أي هجوم آخر.
وتتردد في هذا الصدد في الإعلام الإسرائيلي وفي الدوائر السياسية والحزبية الإسرائيلية تعبيرات مثل: “اجعلهم يعرفون أن صاحب البيت أصيب بالجنون” أو “دعهم يرون الجنون الحقيقي”.
شهدنا هذا النوع من التظاهر بالجنون من قبل في حرب لبنان 2006، عندما ألقت إسرائيل عشرات الأطنان من المتفجرات على ضاحية بيروت، ولكنها اضطرت في النهاية للانسحاب وهي تجر أذيال الخيبة، ليس فقط لأن حزب الله صمد في الحرب، ولكن لأن الداخل الإسرائيلي أيضًا تضرر كثيرًا من ردود حزب الله.
في الحرب الحالية في غزة، لم يبقَ في الواقع لاعب مؤثر أمام إسرائيل سوى أنصار الله الحوثيين في اليمن. ولعل هذا هو ما دفع الولايات المتحدة للتدخل ضدهم بقوة، فلن يتحقق لإسرائيل نصر حقيقي إذا ظل الحوثيون يقصفونها، حتى لو عادت للاستيلاء على غزة كلها.
لهذا بدأ الأمريكيون الضغط على إيران لتقييد الحوثيين لو كانت تستطيع ذلك. ولكن أعتقد أن إيران لا تستطيع تقييدهم، ولو كانت تستطيع فلن تفعل.
وربما كان الأفضل لإيران أن تتقمص هي الأخرى شخصية المجنون، فترد على أي هجوم ضدها بردود متتالية عنيفة تجعل الطرف الآخر يظن أنها أصيبت بالجنون. فلا يوقف الجنون إلا الجنون.