يستعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإعلان خلال الأيام المقبلة عن استراتيجيته الجديدة للأمن القومي، التي ستتبعها مراجعة شاملة لسياسة الدفاع والانتشار العسكري الأميركي حول العالم، في خطوة تهدف إلى رسم ملامح أولويات إدارته خلال السنوات الأربع المقبلة.
إلا أن تسريبات من داخل الإدارة الأميركية كشفت عن تحول غير متوقع في بوصلة الاهتمام الأميركي، إذ تتجه واشنطن إلى منح أميركا اللاتينية دوراً محورياً في هذه الاستراتيجية الجديدة، على حساب التركيز التقليدي على التنافس الجيوسياسي مع الصين وروسيا، وفق ما أوردت صحيفة فاينانشل تايمز.

تركيز جديد على نصف الكرة الغربي
وتشير التسريبات إلى أن البيت الأبيض يعمل على إعادة صياغة مفهوم الأمن القومي الأميركي بما يعكس “التهديدات القادمة من الجنوب”، وليس من الشرق أو الغرب كما كان الحال في العقود السابقة.
ويرى محللون أن هذا التحول نابع من اعتبارات سياسية داخلية، أكثر من كونه تحولاً استراتيجياً خالصاً، إذ يسعى ترامب إلى توظيف السياسة الخارجية لخدمة أجندته الداخلية، ولا سيما ملف الهجرة غير الشرعية وتعزيز أمن الحدود الجنوبية.
ويقول خبراء في واشنطن إن إدارة ترامب تعتبر أن ضبط الحدود مع المكسيك ومكافحة تهريب المخدرات من أهم ركائز الأمن القومي، إلى جانب تقليص نفوذ الصين المتنامي في دول أميركا الجنوبية.
فنزويلا وكولومبيا ساحتا المواجهة الجديدتان
تتجه الأنظار إلى فنزويلا وكولومبيا كأبرز ساحات المواجهة في السياسة الأميركية الجديدة.
ففي الأشهر الأخيرة، رصدت تقارير استخباراتية تعزيزاً بحرياً أميركياً في منطقة الكاريبي قرب السواحل الفنزويلية، قالت الإدارة إنه مخصص لمكافحة تهريب المخدرات، فيما يراه مراقبون رسالة ضغط سياسية على نظام الرئيس نيكولاس مادورو.

واتهم ترامب مراراً حكومة مادورو بأنها “تغذي تجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة”، بينما ردت كاراكاس برفع مستوى التأهب العسكري تحسباً لأي “عمل عدائي أميركي”.
أما العلاقات مع كولومبيا، فقد شهدت توتراً حاداً بعد تصريحات الرئيس اليساري غوستافو بيترو الذي شبّه ترامب بـ”هتلر”، ليرد الأخير باتهامه بأنه “مهرّب مخدرات” و”يعاني من اضطرابات عقلية”، ملوّحاً بوقف المساعدات الأميركية وفرض رسوم جمركية على الصادرات الكولومبية.
توتر مع البرازيل وصفقة مشروطة مع الأرجنتين
ولم تسلم البرازيل من تداعيات هذا التوجه الجديد، إذ فرضت واشنطن رسوماً جمركية بنسبة 50% بعد سجن الرئيس السابق جايير بولسونارو، أحد أقرب حلفاء ترامب في أميركا اللاتينية، بتهمة محاولة قلب نتائج الانتخابات.
في المقابل، اتجهت الإدارة الأميركية نحو دعم مالي ضخم للأرجنتين بلغت قيمته 20 مليار دولار، مقابل تقليص تعاونها الاقتصادي مع الصين التي توسّع نفوذها في مشاريع التعدين والبنية التحتية في المنطقة.
ويعتبر محللون أن هذه السياسة “الانتقائية” تؤكد أن ترامب يسعى إلى بناء محور سياسي واقتصادي موالٍ للولايات المتحدة في أميركا الجنوبية، لمواجهة التمدد الصيني وموازنة العلاقات المتوترة مع بعض العواصم اللاتينية.
رؤية ترامب: الأمن الداخلي يبدأ من الخارج
يرى مراقبون في واشنطن أن سياسة ترامب الجديدة تقوم على مبدأ أن “المعارك الخارجية تخدم روايته الداخلية”، في إشارة إلى استخدام الملفات الإقليمية لتعزيز صورته السياسية في الداخل الأميركي.
وبحسب هذه الرؤية، فإن قضايا الهجرة، وأمن الحدود، وتهريب المخدرات باتت تشكل المحرك الأساسي للسياسة الأميركية في نصف الكرة الغربي، في حين تتراجع الأولوية عن ملفات مثل المواجهة مع الصين أو دعم التحالفات الأوروبية.

ويقول خبير الشؤون الأميركية في جامعة جورج تاون، ديفيد كينغ، إن “ترامب يعيد تعريف مفهوم الأمن القومي الأميركي بما يتوافق مع أجندته الانتخابية. فبدلاً من التركيز على المنافسين الدوليين، يضع تركيزه على محيطه الإقليمي المباشر”.
اقرأ أيضًا:
واشنطن تشدد الضغط على فنزويلا بتحركات عسكرية في الكاريبي وترينيداد وتوباغو تفتح سواحلها
تداعيات استراتيجية على النفوذ الأميركي
ويحذر محللون من أن هذا التحول الاستراتيجي قد يؤدي إلى إضعاف النفوذ الأميركي في آسيا وأوروبا، حيث تستغل الصين وروسيا أي فراغ لتوسيع حضورهما السياسي والاقتصادي.
غير أن آخرين يرون أن العودة إلى أميركا اللاتينية تمثل تصحيحاً ضرورياً لمسار السياسة الأميركية، بعد سنوات من “الإهمال الجيوسياسي” لصالح مناطق أخرى.
وفي انتظار إعلان استراتيجية الأمن القومي الجديدة، يبقى واضحاً أن إدارة ترامب تسعى إلى صياغة خريطة أولويات جديدة، تضع نصف الكرة الغربي في مقدمة الاهتمام، وتعيد تشكيل التوازنات السياسية في القارة اللاتينية، بما يخدم رؤية الرئيس الأميركي حول “أمن الداخل من خلال السيطرة على الجوار”.
