بينما تواصل شركات الفضاء حول العالم سباقها المحموم نحو تحقيق الحلم الأكبر بإنشاء أول مستعمرة بشرية على كوكب المريخ، تتكشف تدريجيًا التحديات الحقيقية التي قد تجعل هذا الحلم أقرب إلى كابوس، فخلف المشاريع الطموحة والإعلانات المثيرة، تكمن معركة بقاء شرسة يخوضها الإنسان ضد واحدة من أقسى البيئات في الكون.
ولا تقتصر صعوبة هذه الرحلة على العقبات الهندسية أو التقنية، بل تمتد إلى مواجهة مباشرة بين الجسد البشري، بتكوينه الأرضي الدقيق، وبين بيئة فضائية خالية من الرحمة.
وبينما ينشغل العالم بتصميم الصواريخ العملاقة وأنظمة الهبوط الذكية، يبرز سؤال وجودي يطرح نفسه بقوة: هل نحن فعلًا مهيؤون بيولوجيًا للعيش في الفضاء؟
هذا السؤال لم يعد افتراضيًا، إذ تكشف دراسات حديثة أجراها علماء وأطباء في وكالة “ناسا” عن الآثار المدمرة للسفر الطويل في الفضاء على جسم الإنسان، وعن الإجراءات التي يمكن اتخاذها لضمان البقاء على قيد الحياة في ظروف بعيدة تمامًا عن بيئتنا الطبيعية.
هشاشة الجسد في انعدام الجاذبية
يؤكد العلماء أن العيش في بيئة منعدمة الجاذبية يؤدي إلى تغييرات جسدية عميقة، تبدأ بفقدان العظام لكثافتها بمعدل يصل إلى 1% شهريًا، وهي نسبة تفوق بكثير ما يواجهه كبار السن على الأرض.
ومع الوقت، تضعف العضلات وتضمر، خاصة في الساقين والظهر، نظرًا لغياب الحاجة إلى تحمل وزن الجسم.

الأمر لا يتوقف عند ذلك، فحتى العمود الفقري يتمدد قليلًا، ما يؤدي إلى زيادة طفيفة في الطول مصحوبة بآلام مزمنة.
هذه التغيرات، التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى، تمثل خطرًا كبيرًا على أي مهمة طويلة إلى المريخ، حيث يتوقع أن تستغرق الرحلة الواحدة أكثر من تسعة أشهر ذهابًا فقط.
اضطراب سوائل الجسم وتغير الدورة الدموية
في الفضاء، تفقد السوائل توازنها داخل الجسم، إذ تنتقل من الجزء السفلي إلى الأعلى، مسببة انتفاخ الوجه وضمور الساقين.
هذا التحول يرفع الضغط داخل الجمجمة ويؤثر سلبًا على شبكية العين والعصب البصري، ما يؤدي إلى مشاكل دائمة في الرؤية لدى بعض الرواد.
كما يتأثر القلب نفسه، إذ تقل الحاجة إلى ضخ الدم بقوة في بيئة خالية من الجاذبية، فيبدأ تدريجيًا في الانكماش، ما يجعل رواد الفضاء أكثر عرضة لهبوط الضغط وصعوبة التكيف عند العودة إلى الأرض.
هذه التغيرات مجتمعة تمثل تحديًا بيولوجيًا خطيرًا لأي محاولة لبناء مجتمع بشري في المريخ.
الإشعاع الكوني… العدو الخفي
بعيدًا عن درع الغلاف المغناطيسي الواقي للأرض، يتعرض رواد الفضاء لمستويات مرتفعة من الإشعاع الكوني الذي يخترق أجسادهم مباشرة.
هذا الإشعاع قادر على إتلاف الحمض النووي داخل الخلايا، ما يزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان بشكل كبير.
ولا يقتصر الضرر على ذلك، إذ يضعف الإشعاع الجهاز المناعي ويقلل من قدرة الجسم على مقاومة الأمراض، مما يجعل أي عدوى بسيطة في الفضاء تهديدًا حقيقيًا للحياة.
لذلك يعمل العلماء على تطوير دروع متقدمة مصنوعة من مواد متعددة الطبقات لامتصاص هذه الجسيمات الخطرة وحماية الرواد منها.
عزلة قاسية وتأثير نفسي غير مسبوق
العيش لأشهر، وربما لسنوات، داخل مركبة ضيقة، بعيدًا عن الأرض، يمثل اختبارًا نفسيًا لا يقل صعوبة عن التحديات الجسدية.
فالعزلة الطويلة، وتأخر التواصل مع الأرض الذي قد يصل إلى 40 دقيقة في كل رسالة، يمكن أن يولدا شعورًا عميقًا بالوحدة والضياع.
وقد أظهرت تجارب محاكاة أجرتها “ناسا” أن هذا الضغط النفسي المستمر قد يؤدي إلى اضطرابات في النوم والذاكرة والمزاج، مما يهدد استقرار الفريق بأكمله.
لهذا السبب، يُخضع رواد الفضاء لتدريبات خاصة تهدف إلى تعزيز التوازن النفسي، إضافة إلى برامج دعم نفسي رقمية تساعدهم على التواصل المستمر مع الأطباء والمعالجين على الأرض.

نحو حلول علمية لمستقبل آمن على المريخ
لمواجهة هذه التحديات، تضع وكالات الفضاء خططًا شاملة تجمع بين اللياقة البدنية، والدعم النفسي، والتقنيات المتقدمة.
فخلال الرحلات الطويلة، يُخصص لرواد الفضاء أكثر من ساعتين يوميًا لممارسة تمارين مكثفة تحاكي تأثير الجاذبية الأرضية.
كما يجري تطوير أنظمة غذائية متكاملة غنية بالكالسيوم والبروتين لدعم صحة العظام، إلى جانب أدوية متخصصة تمنع فقدان الكتلة العظمية.
ومن ناحية أخرى، يعمل المهندسون على تصميم مركبات تدعم “الجاذبية الاصطناعية”، لتوفير بيئة أكثر استقرارًا تحافظ على وظائف الجسم الطبيعية.
وفي موازاة ذلك، تتواصل الأبحاث لتطوير مواد واقية من الإشعاع الكوني يمكن استخدامها في بناء مساكن المريخ المستقبلية.
ومع ذلك، يبقى السؤال معلقًا: هل يمكن للبشر أن يتحملوا حقًا الحياة في بيئة مختلفة جذريًا عن كوكبهم الأم؟
اقرأ ايضًا…اقتراب الحلم من الواقع: إيلون ماسك يخطو خطوة جديدة نحو المريخ بعد اختبار مذهل لـ”ستارشيب”
