يشهد شمال أوروبا حالة من القلق المتزايد مع تصاعد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في منطقة خليج فنلندا، التي تحوّلت إلى واحدة من أكثر النقاط حساسية على الخريطة الجيوسياسية في العالم.
فبينما تواصل موسكو استخدام هذا الممر الحيوي لنقل بضائعها وتغذية اقتصادها الحربي عبر ما يُعرف بـ”أسطول الظل”، يحذر خبراء الأمن من أن أي احتكاك عسكري أو حادث عرضي في هذه المنطقة الضيقة قد يكون الشرارة الأولى لحرب عالمية ثالثة.

خليج فنلندا.. ممر استراتيجي شديد الحساسية
يمتد خليج فنلندا شرق بحر البلطيق بين فنلندا وإستونيا، وصولًا إلى مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، ثاني أكبر مدن روسيا وميناؤها العسكري والتجاري الأهم على البلطيق.
وبالرغم من أن الخليج لا يتجاوز 80 ميلاً في أوسع نقطة، فإنه يشكل شريانًا بحريًا أساسيًا لعمليات النقل والتجارة الروسية، خصوصًا في ظل العقوبات الغربية المفروضة على موسكو منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
وتُبحر في هذه المنطقة بانتظام سفن يُطلق عليها “السفن الشبحية” أو “أسطول الظل”، وهي سفن يصعب تتبعها بسبب تعقيد سجلات ملكيتها واستخدامها لأعلام دول مختلفة، ما يجعلها أداة مثالية لروسيا لتجاوز العقوبات ونقل النفط والسلع الحيوية دون رقابة غربية مباشرة.
تحذيرات من “نقطة اشتعال” جديدة
ووفقًا لصحيفة «ذا صن» البريطانية، فإن خليج فنلندا يمثل اليوم أحد أكثر الممرات البحرية توترًا في أوروبا.
يقول خبير الأمن الدولي توم كيتينغ: “الوضع حساس للغاية بالنسبة للناتو والروس على حد سواء. هناك طائرات عسكرية تحلّق باستمرار فوق المنطقة، والمجال ضيق لدرجة أن أي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة”.
وتوافقه الرأي الدبلوماسية الجورجية السابقة ناتالي سابانادزي، التي ترى أن خليج فنلندا أصبح “نقطة اشتعال رئيسية محتملة للحرب بين روسيا وحلف الناتو”، خصوصًا في ظل النشاط المتزايد لـ”أسطول الظل” الروسي في المنطقة.

وتضيف سابانادزي أن السفن الشبحية لا تقتصر مهمتها على نقل النفط فحسب، بل “تُستخدم أيضًا في عمليات أكثر خطورة”، مشيرة إلى حادثة احتجاز سفينة روسية في فرنسا يُشتبه بأنها ساعدت في إطلاق مسيّرات داخل أجواء حلف الناتو.
عمليات تخريب واتساع رقعة المخاطر
في ديسمبر/كانون الأول الماضي، اتُّهمت سفينة روسية تُدعى «إيغل إس»، يُعتقد أنها تابعة لأسطول الظل، بتدمير خمسة كابلات اتصالات في خليج فنلندا باستخدام مراسيها.
وحذرت سابانادزي من أن “ترك الخليج دون رقابة كافية سيسمح للسفن الروسية بإثارة المزيد من الاضطرابات وتهديد أمن البنية التحتية الحيوية في أوروبا”.
لكن التوتر لا يقتصر على البحر فقط؛ فالمجال الجوي فوق خليج فنلندا يشهد أيضًا مواجهات متكررة بين طائرات روسية وأخرى تابعة للناتو.
ففي حادثة حديثة، شاركت طائرتان إيطاليتان من طراز “إف-35” في مواجهة استمرت 12 دقيقة مع مقاتلات روسية من طراز “ميغ-31” القادرة على حمل رؤوس نووية، بعد أن اخترقت الأخيرة أجواء الحلف.
وقد كادت تلك المواجهة، بحسب مراقبين، أن تشعل فتيل صراع مباشر قبل أن ترافق طائرات الناتو المقاتلات الروسية إلى خارج المنطقة.
سلسلة حوادث وتحذيرات متكررة
وفي مايو/أيار الماضي، أرسلت موسكو مقاتلة من طراز “سو-35” إلى أجواء الناتو لاعتراض سفينة مشبوهة كانت تمر عبر الخليج، فيما اعتبرت قوات الدفاع الإستونية الحادث “استعراضًا للقوة” من جانب روسيا.
يقول كيتينغ إن احتمالات وقوع حادث خطير “مرتفعة للغاية” في هذه المنطقة المكتظة بالأنشطة العسكرية والبحرية، مشيرًا إلى أن مسار السفن من القناة الإنجليزية مرورًا بالمضائق الدنماركية ثم بحر البلطيق وصولًا إلى سانت بطرسبرغ “يشكّل سلسلة من النقاط الحرجة القابلة للاشتعال”.
وأضاف: “في الأماكن الضيقة مثل خليج فنلندا، يكفي حادث بسيط — سواء كان تصادمًا بين طائرات أو تسربًا نفطيًا — لإطلاق أزمة دولية كبرى.”
اقرأ أيضًا:
تصاعد التوتر بين أفغانستان وباكستان بعد اشتباكات حدودية عنيفة
دعوات لتنسيق أوروبي شامل
وفيما تؤكد سابانادزي أن التضييق الأوروبي على نشاط الأسطول الروسي في خليج فنلندا ضروري، إلا أنها حذّرت من أن موسكو ستبحث عن ممرات بديلة في بحر البلطيق أو البحر الأسود إذا تم إغلاق هذا الطريق.
وقالت: “عندما تبدأ أوروبا بالسيطرة على خليج فنلندا، سيحوّل الروس عملياتهم إلى مناطق أخرى. المطلوب هو عمل أوروبي جماعي يضمن مراقبة كاملة للممرات البحرية كافة.”
ومع استمرار المناورات الجوية والبحرية على جانبي الخليج، يزداد خطر سوء التقدير العسكري الذي قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين روسيا والناتو.
ويجمع المحللون على أن خليج فنلندا بات اليوم النقطة الأضيق والأخطر في الجغرافيا السياسية الأوروبية، حيث يمكن لحادث صغير أن يطلق شرارة مواجهة كبرى لا يريدها أحد — لكنها تبقى ممكنة في أي لحظة.