في خطوة تاريخية طال انتظارها، تم الإعلان عن أعمال التنقيب في مقبرة جماعية يُعتقد بأنه دفن بها ما يقرب من 800 طفل.
وأعلن دانيال ماكسويني، مدير مكتب “مدير التدخل المُصرّح به” (ODAIT)، يوم الاثنين، أن فريقًا من الخبراء الدوليين سينضم إلى نظرائهم الأيرلنديين للبدء في أعمال التنقيب في موقع يُعتقد أنه يضم مقبرة جماعية غير معلّمة لأطفال داخل دار رعاية سابقة للأمهات والأطفال في مدينة توام بغرب أيرلندا.
بدء التنقيب في مقبرة جماعية أيرلندية
وخلال مؤتمر صحفي عُقد في المدينة، أوضح ماكسويني أن خبراء من كولومبيا وإسبانيا والمملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة انضموا رسميًا إلى فريق العمل، استعدادًا لانطلاق عمليات التنقيب الشاملة الأسبوع المقبل، والتي من المتوقع أن تستمر لمدة عامين كاملين.
الهدف من هذه الأعمال هو استخراج رفات الأطفال الرضع الذين توفوا في دار الرعاية بين عامي 1925 و1961، وتحليلها، ومحاولة تحديد هوياتهم إن أمكن، تمهيدًا لإعادة دفنهم بشكل يليق بكرامتهم التي سُلبت في الحياة والموت.

موقع مأساوي تحت مجمع سكني
الموقع، الذي يبعد حوالي 230 كيلومترًا غرب العاصمة دبلن، يقع حاليًا وسط مجمع سكني أُقيم في سبعينيات القرن الماضي. وقد تم تطويقه بسياج بارتفاع 2.4 متر، ويخضع لمراقبة أمنية على مدار الساعة لضمان حماية الأدلة الجنائية خلال أعمال الحفر والتحليل.
الطبيبة الشرعية نيامه ماكولا، كبيرة مستشاري الطب الشرعي في مكتب ODAIT، أكدت صعوبة المهمة، مشيرة إلى أن طريقة دفن الرفات كانت عشوائية للغاية.
وأوضحت أن تنقيبات تجريبية أُجريت بين عامي 2016 و2017 كشفت عن وجود كميات كبيرة من رفات الأطفال موزعة على 20 غرفة فردية داخل ما بدا وكأنه سرداب مؤقت، يقع على عمق مترين تحت الأرض.
وأضاف ماكسويني أن المهمة “فريدة من نوعها من حيث التعقيد”، لأن الفريق يتعامل مع مجموعات متعددة من رفات الرُضّع، ما يزيد من تعقيد أعمال التحليل والتعرف على الهويات.
وذكر أنه تم جمع عينات حمض نووي من نحو 30 فردًا من أقارب محتملين، مع خطط لتوسيع نطاق جمع العينات خلال الأشهر المقبلة بهدف إنشاء قاعدة بيانات جينية شاملة تُساعد في تحديد الهويات.

من الاكتشاف الصادم إلى الحقيقة الدفينة
يأتي هذا التطور بعد مرور أكثر من عقد على الاكتشاف الأولي الذي هزّ المجتمع الأيرلندي والعالم. ففي عام 2014، قدمت المؤرخة المحلية كاثرين كورليس أدلة مفصلة على وفاة 796 طفلًا – تتراوح أعمارهم من حديثي الولادة إلى تسع سنوات – خلال فترة تشغيل دار الرعاية.
وأشارت أبحاث كورليس إلى أن هؤلاء الأطفال قد يكونون دُفنوا في خزان صرف صحي مهجور يعود اكتشافه إلى عام 1975، ما أثار صدمة وغضبًا عارمًا داخل وخارج أيرلندا، ودفع الحكومة إلى تشكيل لجنة تحقيق وطنية في “دور رعاية الأم والطفل”.
الدار المعنية في توام كانت تديرها راهبات كاثوليكيات بين عامي 1925 و1961، ثم تُركت على حالها بعد هدم المؤسسة عام 1972. في تلك الفترة، كانت النساء اللواتي يحملن خارج إطار الزواج يُعزلن في هذه الدور، حيث كنّ يخضعن لرقابة صارمة من الدولة والكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تهيمن على القيم والمواقف الاجتماعية في البلاد.
وبعد الولادة، كان يتم فصل الأمهات عن أطفالهن، وغالبًا ما يُعرض هؤلاء الأطفال للتبني دون موافقة أو معرفة الأم.
أرقام صادمة وإرث ثقيل
التحقيقات المدعومة من الحكومة والتي أثارتها اكتشافات كورليس، كشفت عن أن أكثر من 56 ألف امرأة غير متزوجة و57 ألف طفل أُودعوا 18 من هذه المؤسسات خلال 76 عامًا. وخلص التقرير النهائي للجنة إلى أن نحو 9 آلاف طفل توفوا داخل هذه الدور على مستوى البلاد، وسط ظروف قاسية وإهمال وسوء معاملة ممنهجة.
استمرت هذه المؤسسات في العمل حتى عام 1998، وبرزت من خلالها علاقة وثيقة بين الدولة والكنيسة الكاثوليكية في إدارة حياة النساء والأطفال بعيدًا عن أعين المجتمع.
وقد تم تشكيل فريق ODAIT أخيرًا في عام 2023، بعد سنوات من الدعوات الحقوقية والعائلية، لقيادة أعمال التنقيب وتحقيق العدالة للضحايا.
منهم «الأحمر والأسود» 10 أغرب شواطيء في العالم يقصدها الناس بفصل الصيف
صرخة متأخرة من أجل الكرامة
آنا كوريجان، إحدى الناشطات التي يُحتمل أن يكون شقيقاها من بين الضحايا المدفونين في الموقع، عبّرت عن مشاعر الغضب والحزن خلال المؤتمر الصحفي. قالت للصحفيين:
“لقد حُرم هؤلاء الأطفال من كل حقوق الإنسان أثناء حياتهم، كما حُرمت أمهاتهم. لقد حُرموا أيضًا من الكرامة والاحترام بعد موتهم”.
وأضافت: “نأمل أن تكون هذه اللحظة بداية سماع أصواتهم. أعتقد أنهم كانوا يبكون منذ زمن بعيد، وكل ما أرادوه هو أن يُسمع صوتهم”.
اليوم، وبعد عقود من الصمت، بدأت أيرلندا أخيرًا في الحفر — ليس فقط في الأرض، ولكن أيضًا في ضميرها الجمعي، بحثًا عن حقيقة ظلت مدفونة تحت أنقاض الخجل والإنكار والسكوت الطويل.