في صباح هادئ يخفي خلفه ألمًا عميقًا، تصدح أصوات الأمهات في شوارع غزة بين نحيب مكتوم وصراخ مختنق، ليس فقط على فراق الأحبة الذين سقطوا، بل على مأساة جديدة تضاف إلى لوعة الفقد: لا مكان لدفنهم.
غزة.. المقابر كاملة العدد
على هذه الأرض المحاصرة، حيث لا ينتهي الألم، تتعدد أوجه الوجع، لكن واحدة منها تفوق كل شيء — أن يموت الإنسان ويُحرم من مثواه الأخير. في غزة، لم تعد المقابر مجرد رموز للحزن، بل تحولت إلى مأساة قائمة بذاتها، مأساة “الدفن المستحيل”.
رغم إعلان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر وبداية خطوات لإعادة الإعمار، تظل جراح الحرب مفتوحة تنزف. ومن بين أصعب أزمات ما بعد الصراع، تظهر أزمة المقابر كواحدة من أشد تداعيات الحرب الإسرائيلية الأخيرة على المدنيين.
في خان يونس جنوب القطاع، تصدح لافتة على بوابة مغسلة الموتى تقول “كامل العدد”، تعبير صارخ عن حجم الكارثة الإنسانية التي حلت. ازدحام غير مسبوق للجثث، ونقص حاد في أماكن الدفن، دفع الأهالي للجوء إلى بدائل قاسية، من دفن الأحبة في باحات المنازل إلى استخدام الساحات العامة.
وصف الروائي الفلسطيني د. حسن القطراوي الوضع قائلاً: “كل شيء في غزة يشعر بالجوع، إلا المقابر، فهي وحدها تعاني من التخمة”.
شهداء غزة حائرون بين الأنقاض
سعدي بركة، حفار قبور منذ 28 عامًا في مقبرة “السويد” بدير البلح، يروي مأساة لا مثيل لها: “اضطررت لبناء قبور بطابق ثانٍ فوق القديم، وربما أضطر للطابق الثالث قريبًا”. مع ارتفاع أعداد الشهداء، ظهرت الحاجة لفتاوى تسمح بالدفن الجماعي للنساء والرجال، خاصة لعائلات كاملة أُبيدت.
بحزن عميق، يقول بركة: “دفنت 135 شهيدًا في قبر واحد، لم يكن هناك خيار آخر”. يضيف أن الاستهداف المتكرر لمناطق المقابر من الاحتلال يجعل الوصول إليها مخاطرة كبيرة.

أما أبو محمد، والد ثلاثة شهداء، فيصف الواقع المرير: “تكلفة حفر وتجهيز القبر تجاوزت 250 دولارًا، وهو مبلغ يفوق قدرة الكثيرين في ظل الانهيار الاقتصادي”. ويقول بمرارة: “حتى الموت أصبح مكلفًا”.
الحفار يوسف أبو حطب يؤكد أن معاناته لا تقتصر على دفن الشهداء، بل في مواجهة أمهات وآباء يبحثون ساعات عن بقعة صغيرة تحتضن فلذات أكبادهم. “أحيانًا نضطر للدفن فوق قبور قديمة أو دفن الجثامين بشكل رأسي لتوفير المساحة”، يتساءل: “هل يعقل أن أزمة أهل غزة تكون في دفن موتاهم؟”.
من جانبه، يرى الناقد ناهض زقة أن المشهد تجاوز حدود الفاجعة: “المجزرة ليست فقط في القتل، بل في كيفية دفن هؤلاء الضحايا”.
ربما لا يوجد وصف أكثر صدقًا من كلمات الشاب الغزي أحمد أبو صقر: “يقولون إن من يموت يرتاح، لكن على هذه الأرض، لا راحة حتى للموتى”.
اقرأ أيضا..
شرم الشيخ تجمع العالم.. 4 دول ضامنة لتنفيذ الاتفاق وأكثر من 20 زعيمًا يحضرون القمة