عندما كتب آرثر بلفور رسالته الشهيرة في نوفمبر 1917، لم يكن يتخيّل أن سطورًا معدودة ستفتح بوابة قرن كامل من الألم والاشتباك في واحدة من أكثر البقاع توترًا على وجه الأرض، منذ ذلك اليوم، تحوّلت غزة من مدينة ساحلية هادئة إلى مسرح دائم للصراعات، ومحور دائم في معادلة لا تهدأ.
غزة من بلفور إلى ترامب
تبدّلت السلطات على غزة، ولم تتبدل المعاناة. خضعت لسيطرة الانتداب البريطاني، ثم الإدارة المصرية بعد النكبة، قبل أن تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. وبعد اتفاق أوسلو، أصبحت غزة جزءًا من الكيان الفلسطيني الوليد، ثم انفصلت سياسيًا عن الضفة الغربية إثر سيطرة حركة حماس عام 2007، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الحصار والاشتباك الدائم.
عاشت غزة حروبًا متتالية، تصدّرت فيها نشرات الأخبار، لكنها بقيت خارج الحسابات الحقيقية لحل شامل. ومرّت عليها مبادرات وساطات وصفقات تبادل ووعود بإعمار لم يكتمل. وبين كل محطة وأخرى، كانت المدينة تنزف وحدها.
اليوم، وبعد أكثر من مئة عام على وعد بلفور، تعود غزة من جديد إلى واجهة المشهد الدولي، ولكن من زاوية مختلفة: خطة أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال ولايته الثانية، تهدف إلى وضع القطاع تحت إشراف مجلس دولي مؤقت بقيادة أمريكية. هذا المجلس، كما تشير الخطة، سيكون مسؤولًا عن مرحلة “ما بعد الحرب”، في محاولة لتثبيت تهدئة شاملة، وإعادة تشكيل المشهد الأمني والسياسي.
قرن عواصف في انتظار شاطئ آمن
ترامب، المعروف بمواقفه المنحازة لإسرائيل في ولايته الأولى، يقدّم نفسه اليوم كصانع سلام جديد، ويدعو إلى وقف إطلاق نار، وتحرير الرهائن، والانطلاق نحو “حل دائم” لا يتضمن دورًا لحركة حماس في المرحلة الأولى. الخطة تطرح شراكة عربية وأوروبية في المجلس، لكنها تُبقي واشنطن على رأس الهرم.
ورغم أن الخطاب المعلن يوحي بتفاؤل، إلا أن كثيرين يرون في هذه الخطة وجهًا جديدًا لتدويل الصراع، عبر إدارة مؤقتة قد تتحول إلى وصاية طويلة الأمد، خصوصًا في ظل غياب ضمانات حقيقية بشأن السيادة الفلسطينية، أو مشاركة ممثلين حقيقيين عن الشارع الغزّي.
مواقف الأطراف كشفت منذ البداية هشاشة المشروع: حماس ترى في الطرح غموضًا وتهميشًا لدورها، بينما أعرب نتنياهو عن قبول مبدئي، في ظل رفض داخلي إسرائيلي لأي تدخل خارجي في غزة. أما الموقف العربي، فلا يزال حذرًا، يراقب دون حماسة ظاهرة.
في المشهد الأوسع، تعكس الخطة تحوّلًا أمريكيًا لافتًا: من دعم غير مشروط لإسرائيل إلى محاولة للهيمنة على إدارة مرحلة ما بعد الحرب. لكن يبقى السؤال: هل تستطيع واشنطن فعلاً فرض نموذج حكم جديد في غزة؟ وهل يمكن أن يُكتب لهذا المسار النجاح في بيئة سياسية واجتماعية معقّدة، شهدت تفككًا وثقلًا لا يُحتمل منذ سنوات طويلة؟.
غزة، التي واجهت الاستعمار والاحتلال والانقسام والحصار، تقف اليوم أمام اختبار جديد. من وعد بلفور إلى خطة ترامب، كان الوعد دائمًا يُكتب من خارج حدودها، وغالبًا دون موافقتها. لكنها، على مدار التاريخ، أثبتت أن لا خطة تصمد طويلًا إن لم تكن نابعة من إرادة أهلها.
اقرأ أيضا.. ترامب: الرئيس المصري لعب دورًا محوريًا في التوصل إلى خطة السلام