تشهد فرنسا هذه الأيام مرحلة دقيقة من تاريخها السياسي بعد تعيين سيباستيان لوكورنو رئيسًا جديدًا للوزراء خلفًا لفرانسوا بايرو، الذي أُجبر على الاستقالة إثر خسارته تصويتًا على الثقة في الجمعية الوطنية، بعد فشله في تمرير خطة تقشفية تهدف إلى خفض العجز الكبير في الموازنة العامة.
فرنسا تشتعل بالتظاهرات
يأتي هذا التغيير في وقت حساس، حيث تعاني البلاد من اضطراب اقتصادي متزايد، تصاحبه موجات احتجاج واسعة النطاق تعكس حالة من الاستياء الشعبي تجاه سياسات الحكومة المتعاقبة. تعيين لوكورنو يعد الرابع في أقل من عام، ما يبرز عمق الأزمة السياسية التي تواجهها الرئاسة الفرنسية في ظل عدم وجود أغلبية برلمانية واضحة.

لوكورنو، البالغ من العمر 39 عامًا، يُعد من أقرب المقربين للرئيس إيمانويل ماكرون، وقد شغل منصب وزير الدفاع منذ عام 2022، حيث عُرف بصلابته الإدارية وحنكته في إدارة الملفات الحساسة مثل تعزيز الإنفاق الدفاعي والتعامل مع الاضطرابات في مناطق ما وراء البحار. اختياره لهذا المنصب يُنظر إليه على أنه محاولة من ماكرون لفرض الاستقرار السياسي من خلال شخصية شابة تتمتع بكفاءة تقنية وقدرة على التفاوض في بيئة سياسية مشحونة.
المهمة الأولى والملحة أمام الحكومة الجديدة تتمثل في تمرير موازنة عام 2026، وهي موازنة تحمل في طياتها خطة لخفض العجز الذي تجاوز نسبة 5.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العام السابق. ورغم أن لوكورنو أكد نيته العمل من أجل تحقيق توافق واسع داخل البرلمان، إلا أن الطريق يبدو معقدًا، خصوصًا في ظل تشتت القوى السياسية وتنامي نفوذ اليمين المتطرف من جهة، واليسار الراديكالي من جهة أخرى.

ما يزيد الأمر صعوبة هو أن أي محاولة لفرض إجراءات تقشف جديدة قد تؤدي إلى مزيد من الغضب الشعبي، في وقت تتصاعد فيه وتيرة الاحتجاجات تحت شعار “لنوقف كل شيء”، وهي حركة مستوحاة من السترات الصفراء وتمتد لتشمل قطاعات عديدة من المجتمع الفرنسي.
تحديات أمام رئيس الوزراء الجديد وسط رفضه الشعبي
الحراك الشعبي المتجدد يعكس قلقًا واسعًا من السياسات الاقتصادية والاجتماعية، حيث يُنظر إلى الحكومة على أنها بعيدة عن هموم المواطن العادي. آلاف المحتجين ينزلون إلى الشوارع يوميًا، يعطلون الطرق والمرافق العامة، ويواجهون قوات أمنية معززة بأكثر من ثمانين ألف عنصر تم نشرهم في عموم البلاد تحسبًا لأي تصعيد. في هذا المناخ المتوتر، يبدو أن الحكومة الجديدة تحاول إظهار نفسها بشكل مختلف، عبر خطاب أقل حدة وأكثر ميلًا للتفاوض والاستماع، وهو ما ظهر في تعليقات لوكورنو الذي تعهد بتشكيل حكومة “فعالة، غير أيديولوجية”، تركز على النتائج بدل الصراعات الحزبية.

ورغم أن ماكرون يواصل الإمساك بزمام السياسة العامة، إلا أن نجاح رئيس الوزراء الجديد في إدارة المرحلة القادمة سيكون حاسمًا لتحديد مآلات الولاية الرئاسية الثانية، بل وربما يحدد ما إذا كانت فرنسا ستتجه نحو انتخابات مبكرة. إذ أن أي فشل إضافي في تحقيق توافق برلماني أو السيطرة على الشارع قد يفتح الباب أمام مطالب متزايدة بحل البرلمان وإعادة تشكيل المشهد السياسي بالكامل. في المقابل، فإن نجاح لوكورنو في تمرير الموازنة وتخفيف التوترات الاجتماعية قد يمنح الحكومة دفعة قوية نحو استعادة المبادرة، في بلد لم يعرف هذا القدر من الاضطراب السياسي منذ عقود.
بهذه الخلفية، تبدو مهمة لوكورنو محفوفة بالتحديات، لكنها أيضًا فرصة لإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وفتح صفحة جديدة عنوانها الاستقرار والفعالية. فإما أن يتمكن من بناء الجسور بين الفاعلين السياسيين والمجتمع الفرنسي، أو أن يدخل اسمه ضمن سلسلة من رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا سريعًا على المنصب دون أن يتمكنوا من كسر حالة الجمود التي تخنق النظام السياسي الفرنسي حاليًا.