في الوقت الذي يهيمن فيه صوت “الزنانة” طائرات الاستطلاع الإسرائيلية على سماء غزة، اختار الموسيقار الفلسطيني، أحمد أبو عمشة، أن يُقابل أصوات القصف بالموسيقى، ويحوّل الخوف إلى نغم، والمخيم إلى مسرح، والحطام إلى أمل.
من هذه الرؤية ولِد مشروعه الإنساني والفني “طيور غزة تغنّي”، الذي تحوّل إلى رسالة حياة في مواجهة الموت، وضمّ أكثر من 200 طفل من مختلف مناطق النزوح.
من النزوح إلى النغمة.. ميلاد فكرة وسط الركام
يحكي أبو عمشة كيف بدأت الفكرة من قلب المعاناة، حين اضطر إلى النزوح أكثر من مرة، متنقلًا من مكان إلى آخر بحثًا عن النجاة، بعد وصوله إلى رفح، وجد فرصة للراحة المؤقتة، وهناك بدأت شرارة المشروع، قائلًا: “ذات يوم، كنت في مكان مخصص للفنانين، وفوجئت بصديقي يُحضر جيتارًا ويطلب مني العزف، عزفت، وتجمّع حولي أطفال المخيم، وبدأنا نغنّي، ونسينا لوهلة أننا في قلب حرب”.
آلات مكسورة وأحلام صامدة
رغم انعدام الموارد، لم يتوقف أبو عمشة عن السعي لتحقيق حلمه، بحث عن آلات موسيقية مكسورة في الشوارع أو ما تبقّى من المراكز التعليمية، وقام بإصلاحها بيده، ليبدأ بها أولى جلسات الغناء مع الأطفال في رفح، مؤمنًا أن الفنّ ضرورة للبقاء، لا ترفًا.
“طيور غزة تغنّي”.. من المخيم إلى العالم
مع انتقاله إلى خان يونس إثر تهجير جديد، نقل المشروع معه، وبدأ في تجميع الأطفال الموهوبين، ليتجاوز عددهم 200 طفل، من بينهم، شكّل فرقة موسيقية أطلق عليها اسم “طيور غزة تغنّي”، ضمّت عشرة طلاب موهوبين قدّموا عروضًا وغنّوا رسائل الأمل وسط الدمار.
وقال أبو عمشة: “كنت أتجوّل بين الخيام وأسأل الأطفال: من يرغب في تعلم الموسيقى؟ وفوجئت بالإقبال الكبير.. بدأنا التدريب، وأصبح لدينا فرقة تحمل الحلم وتبثّ الحياة”.
صوت الأمل يتردّد على وسائل التواصل
لم يكن المشروع محليًا فقط، بل حرص الموسيقار على توثيقه عبر منصات التواصل الاجتماعي، قام بتأليف أغانٍ مع الأطفال ونشرها، ولاقت تفاعلًا واسعًا: “رسائلنا وصلت إلى الناس، لمسنا تعاطفًا حقيقيًا مع واقعنا، ومع الأطفال الذين يواجهون الحرب بالأغاني”، يقول أبو عمشة.
وسط المعاناة.. الموسيقى تداوي الأرواح
عانى الأطفال في خان يونس من أوضاع معيشية قاسية: نقص الطعام والماء، وانعدام الأمان، ومع ذلك، تمسّك أبو عمشة بمشروعه: “كان الهدف أن نرسم الفرحة على وجوه الأطفال، أن نمنحهم شعورًا مؤقتًا بالأمان، وسط هذا الجحيم”، يروي بحسرة، ويتابع: “كثير من الأطفال تغيّروا.. أولياء الأمور قالوا إن أبناءهم أصبحوا أكثر تفاعلًا وفرحًا، وهذا أثبت لي أن الفن قادر على التغيير”.
مجتمع من الغناء داخل المخيمات
تحوّل المشروع إلى ما يشبه العائلة، إذ أصبح الطلاب وأسرهم والمعلمون يعيشون معًا، يتنقلون كمجموعة واحدة، يحزنون ويغنّون معًا: “كلما نزحنا، رافقنا الأهالي، صرنا نشكل مجتمعًا صغيرًا من الفن والإنسانية وسط الحرب”، يقول أبو عمشة.
يوسف.. الغائب الحاضر
من أقسى اللحظات التي مرّ بها المشروع، كان فقدان الطفل يوسف سليمان، أحد أبرز طلاب الموسيقى، الذي استُشهد أثناء محاولته التقاط شبكة هاتف للاتصال بوالده: “توقّفنا عن الغناء حدادًا عليه، لكننا قررنا بعد أسبوعين أن نغنّي له، كتبنا له أغنية بعنوان: (ما في ليل)، وأهْدَيْناها لروحه”.
اقرأ أيضًا:
جائزة نوبل للأدب 2025 تذهب للكاتب المجري لازلو كراسناهوركاي
الحرب لم تُطفئ الحلم
رغم انتهاء جولة الحرب، يؤكد أبو عمشة أن المشروع مستمر: “لن نتوقف، هذا المشروع لمس قلوب الناس، ليس فقط في غزة، بل في العالم كله”.
يحلم بأن يتوسع المشروع ليصل إلى أطفال العالم الذين عاشوا تجارب الحرب واللجوء، ويرى في الموسيقى وسيلة لإعادة جزء من الطفولة المسروقة.
رسالة من غزة إلى العالم: “نغنّي رغم الدمار”
يختم أحمد أبو عمشة حديثه برسالة مؤثرة: “نحن شعب يستحق الحياة، نحبّ السلام، ونواجه الحرب بالموسيقى، لا بالسلاح، أحلم أن تصل موسيقانا إلى كل طفل يشعر بالوحدة في هذا العالم، أقول للفنانين: لا تخافوا، عبّروا عن أحلامكم وأوجاعكم.. بالغناء نصنع الحياة”.