بينما تستعد الولايات المتحدة للاحتفال بمرور 250 عامًا على تأسيسها عام 1776، يتجدد في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الأميركية السؤال التاريخي: هل يقترب العصر الأميركي من نهايته؟
سؤال أعادت صحيفة واشنطن بوست (The Washington Post) طرحه في مقال تحليلي للباحث يوهان نوربرغ، الزميل الأقدم في معهد كاتو للأبحاث بالعاصمة واشنطن، والذي حذر فيه من أن الخطر الحقيقي الذي يهدد أميركا اليوم لا يأتي من الخارج، بل من داخلها.

بين روما القديمة وواشنطن الحديثة.. تحذير من تكرار التاريخ
يستهلّ نوربرغ مقاله بتذكير القرّاء بأن سقوط الإمبراطورية الرومانية ظل شبحًا يطارد المخيلة الغربية عبر القرون، مشيرًا إلى أن حتى أكثر الإمبراطوريات قوة قد تنهار إذا تآكلت من الداخل.
ويشير الكاتب إلى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة استلهموا نموذج دولتهم الجديدة من الديمقراطيات الكلاسيكية مثل أثينا وروما، سواء في الفكر السياسي أو حتى في الطراز المعماري للعاصمة واشنطن.
ومنذ ذلك الحين، يقول نوربرغ، ظل الأميركيون يخشون تكرار مصير تلك الحضارات التي بلغت ذروة القوة ثم انهارت فجأة بسبب ضعفها الداخلي، وليس بسبب أعدائها الخارجيين.
ديون ضخمة وانقسامات عميقة.. مؤشرات الانحدار
بحسب المقال، تواجه واشنطن اليوم مجموعة من العوامل التي تُعيد إلى الأذهان المراحل الأخيرة من روما القديمة، أبرزها:
تصاعد الدين العام إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة.
الانقسام السياسي والاجتماعي الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين.
الاضطراب الاقتصادي وعدم الاستقرار العالمي.
ويرى نوربرغ أن هذه العوامل مجتمعة تغذي المخاوف من أن الإمبراطورية الأميركية قد تدخل مرحلة التراجع البطيء، كما حدث لروما قبل سقوطها عام 476 ميلاديًا.

“الروح الأثينية” في مواجهة “العقلية الإسبرطية”
يتناول الكاتب المقارنة بين الروح الأثينية التي مثلت الانفتاح والحرية والإبداع، والعقلية الإسبرطية التي تجسد الانغلاق والرقابة والهيمنة العسكرية.
ويقول نوربرغ إن العصور الذهبية في التاريخ – من أثينا وروما إلى بغداد العباسية وإيطاليا عصر النهضة والصين في عهد أسرة سونغ – لم تزدهر إلا حين كانت منفتحة على التجارة والهجرة والأفكار الجديدة.
أما لحظة الانهيار فكانت عندما فقدت تلك المجتمعات فضولها وثقتها بذاتها، وتحولت إلى الخوف من الاختلاف وفرض التجانس الأيديولوجي.
الصين وأميركا.. وجهان لنفس القصة
في مقارنة لافتة، يسقط نوربرغ هذا النموذج على الصين الحديثة والولايات المتحدة معًا، فقد شهدت الصين، بحسب المقال، صعودًا اقتصاديًا مذهلًا في عهد دينغ شياو بينغ (1978 – 1992) نتيجة انفتاحها على الأسواق والتكنولوجيا العالمية.

لكنّها في عهد شي جين بينغ اتجهت نحو المركزية والانغلاق والرقابة، وهي الخطوات نفسها التي أضعفت الحضارات الكبرى عبر التاريخ، أما في الغرب، فيرى الكاتب أن الانقسام السياسي والتشدد الأيديولوجي بعد أزمات مثل هجمات 11 سبتمبر وجائحة كورونا أدّيا إلى تراجع قيم التسامح والانفتاح التي شكّلت جوهر الديمقراطية الأميركية.
يمين قومي ويسار غير ليبرالي.. خطر من الجانبين
يحذر نوربرغ من أن صعود اليمين القومي المتشدد واليسار غير الليبرالي يعكس نزعة متزايدة لقمع الرأي المخالف، ما يؤدي إلى تآكل روح الحوار الديمقراطي التي قامت عليها الولايات المتحدة.
ويضيف أن كلا التيارين، رغم اختلاف توجهاتهما، يشتركان في رفض التعددية الفكرية وفرض التجانس الأيديولوجي، وهو ما يمثل – برأيه – تهديدًا أخطر من أي قوة خارجية.
اقرأ أيضًا:
إعادة إعمار غزة| دول كبرى تعلن استعدادها للمساهمة بتكلفة تُقدّر بـ 70 مليار دولار
الأمل لا يزال قائمًا: التاريخ يمنح فرصًا ثانية
ورغم الصورة القاتمة، يؤكد الباحث أن الانحدار ليس قدرًا محتوما، مشيرًا إلى أن الأمم يمكنها تجديد نفسها بالإرادة والشجاعة.
ويضرب أمثلة من التاريخ، مثل نهضة الصين في عهد سلالة سونغ وانتعاش أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، مؤكدا أن التحولات الكبرى تبدأ من استعادة الثقة والانفتاح على العالم.

ويقول إن واشنطن لا تزال تمتلك مؤسسات قوية وحريات متجذرة قادرة على إعادة بناء روحها “الأثينية” إذا ما قاومت النزعة القَبَلية واستعادت إيمانها بالتجريب والحرية الفردية.
لينكولن: الخطر من الداخل
ويختم نوربرغ مقاله باستحضار كلمات أبراهام لينكولن، الرئيس الأميركي السادس عشر، الذي قال: “إن كان دمارنا قدرنا، فسيكون من صنع أيدينا. وكأمة من الأحرار، إما أن نعيش عبر كل الأزمنة، أو نموت انتحارًا.”
ويعلق الكاتب بأن تلك الكلمات – رغم مرور أكثر من 160 عامًا عليها – تبدو اليوم أكثر واقعية من أي وقت مضى، مع اقتراب أميركا من لحظة محورية في تاريخها.