في تطور يُنذر بتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، كشفت مصادر تجارية مطلعة لوكالة “رويترز” عن قرار واشنطن تعليق مساهماتها المالية في منظمة التجارة العالمية، ويأتي هذا القرار في إطار سياسة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرامية إلى تقليص الإنفاق الحكومي ومراجعة التزامات الولايات المتحدة تجاه المنظمات الدولية، التي تراها متعارضة مع مبدأ “أمريكا أولاً” الذي تقوم عليه سياستها الاقتصادية الخارجية.

ضربة قوية لـ منظمة التجارة العالمية
تمثل هذه الخطوة ضربة قوية لمنظمة التجارة العالمية، التي تعتمد في تمويلها بشكل أساسي على المساهمات المالية للدول الأعضاء. وتشير الوثائق الرسمية للمنظمة إلى أن ميزانيتها السنوية تبلغ حوالي 205 ملايين فرنك سويسري (ما يعادل 232.06 مليون دولار). وكان من المفترض أن تقدم الولايات المتحدة مساهمة تقدر بنحو 11% من هذه الميزانية، وفقاً لنظام الحصص الذي يرتبط بحجم المشاركة في التجارة العالمية.
وقد أكد مصدران مطلعان أن المندوب الأمريكي في المنظمة أبلغ خلال اجتماع سري عقد في الرابع من مارس/آذار الماضي، بأن واشنطن ستعلق جميع مدفوعاتها المتعلقة بميزانيتي عامي 2024 و2025. وجاء هذا الإعلان في سياق مراجعة شاملة تقوم بها الإدارة الأمريكية لالتزاماتها المالية تجاه مختلف المنظمات الدولية. ومن الملفت أن المصادر طلبت عدم الكشف عن هويتها نظراً لحساسية الموضوع وكون الاجتماع كان مغلقاً.
سياسة الانكفاء الأمريكي عن المؤسسات الدولية
لا يعد هذا القرار مفاجئاً في ضوء السياسة الخارجية لإدارة ترامب، التي تتسم بالتشكيك في الفوائد التي تجنيها الولايات المتحدة من عضويتها في المنظمات الدولية. فقد سبق لواشنطن أن أعلنت عن نيتها الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، كما خفضت مساهماتها في عدد من المؤسسات الدولية الأخرى.
ويذكر أن منظمة التجارة العالمية قد تعرضت لضربة قوية سابقة خلال ولاية ترامب الأولى، عندما قررت واشنطن في عام 2019 منع تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة، مما أدى إلى شلل جزئي في آلية تسوية المنازعات التي تعد أحد أهم وظائف المنظمة. وقتها، اتهمت الولايات المتحدة هيئة الاستئناف بتجاوز صلاحياتها في الفصل في النزاعات التجارية.
تداعيات مالية وقانونية محتملة
تكشف وثيقة داخلية حصلت عليها “رويترز” عن أن المتأخرات المالية للولايات المتحدة أمام المنظمة بلغت 22.7 مليون فرنك سويسري (25.70 مليون دولار) حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2024. وتنص لوائح المنظمة على أن أي عضو يتجاوز تأخيره في السداد عاماً كاملاً يكون عرضة لـ”إجراءات إدارية” تتصاعد شدتها مع استمرار التأخير.
من جهتها، تدرس إدارة منظمة التجارة العالمية حالياً وضع “خطة بديلة” لضمان استمرار عملها في حال طال أمد تعليق المساهمات الأمريكية، وفقاً لما أفاد به مصدر ثالث. إلا أن المصدر لم يقدم تفاصيل عن طبيعة هذه الخطة أو مدى فعاليتها المحتملة.
ردود الفعل والموقف الأمريكي الرسمي
عند سؤالها عن هذا القرار، أشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية إلى الأمر التنفيذي الذي وقعه الرئيس ترامب الشهر الماضي، والذي يوجب على الوزارة إجراء مراجعة شاملة لانتماءات الولايات المتحدة في جميع المنظمات الدولية خلال 180 يوماً، ويهدف هذا الأمر إلى تحديد ما إذا كانت هذه العضويات تتعارض مع المصالح الأمريكية.
آفاق الأزمة وتأثيرها على النظام التجاري العالمي
يطرح هذا التطور أسئلة مصيرية حول مستقبل النظام التجاري متعدد الأطراف، فمن ناحية، تظهر الولايات المتحدة إصراراً على إعادة هيكلة علاقاتها مع المؤسسات الدولية بما يخدم رؤيتها للسيادة الوطنية، ومن ناحية أخرى، تواجه المنظمات الدولية تحدياً وجودياً يتعلق بقدرتها على الصمود في وجه انسحاب أو تقليص مساهمات أحد أهم أعضائها.
يُذكر أن منظمة التجارة العالمية، التي تأسست عام 1995، لعبت دوراً محورياً في تنظيم التجارة الدولية وحل النزاعات التجارية بين الدول الأعضاء التي يبلغ عددها 164 دولة. ويخشى مراقبون أن يؤدي استمرار السياسة الأمريكية الحالية إلى إضعاف المنظمة بشكل قد يهدد استقرار النظام التجاري العالمي برمته.
سيناريوهات مستقبلية
في ظل هذه التطورات، تبرز عدة احتمالات لمستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، فقد تدفع الضغوط الدولية واشنطن إلى تعديل موقفها، أو قد تستمر في مسارها الحالي مما قد يؤدي إلى فرض عقوبات إدارية عليها. كما أن استمرار الأزمة قد يدفع بالمنظمة إلى اعتماد إصلاحات هيكلية تمكنها من تخفيف اعتمادها على المساهمات الأمريكية.
يبقى السؤال الأكبر: هل ستكون هذه الأزمة المحفز لإصلاح جذري في نظام الحوكمة العالمية، أم أنها ستكون الخطوة الأولى نحو تفكك النظام الذي حكم الاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ الوقت وحده كفيل بالإجابة عن هذا التساؤل المصيري.
اقرأ أيضًا:
موديز تحذر: القوة المالية الأمريكية تواجه تراجعاً مع تزايد العجز وتراكم الديون