تم حل لغز “المستعمرة الأمريكية المفقودة” الذي حير الأمريكيين وراود خيال الروائي الشهير ستيفن كينج، بعد الكشف عن أدلة جديدة تسلط الضوء على سر غامض عمره أكثر من أربعة قرون.
فقد عثر علماء الآثار على رقائق معدنية صغيرة، لا يتجاوز حجمها حبة أرز، لكنها تُعد مفتاحًا محتملاً لفك لغز مستوطنة “رونوك” الإنجليزية التي اختفت في ظروف غامضة في أواخر القرن السادس عشر.

وهذه الرقائق، الناتجة عن عملية تشكيل المعادن، تم استخراجها مؤخرًا ويُعتقد أنها تقدم دليلًا ماديًا على ما جرى للمستعمرين المفقودين.

حل لغز المستعمرة الأمريكية

لمدة 435 عامًا، ظل الغموض يلف مصير 118 رجلًا وامرأة وطفلًا ممن أسسوا أول مستوطنة إنجليزية في أمريكا الشمالية، على جزيرة رونوك في ولاية كارولينا الشمالية.

وتشير الروايات التاريخية إلى أن زعيمهم، جون وايت، غادر المستوطنة عام 1587 للعودة إلى إنجلترا وجلب الإمدادات، لكنه تأخر في العودة بسبب الصراع مع الأسطول الإسباني، ولم يتمكن من الوصول مجددًا حتى عام 1590.

وعند عودته، وجد المستوطنة مهجورة بالكامل، دون أثر للسكان، باستثناء نقش غريب على أحد الأعمدة الخشبية يحمل كلمة “كرواتوي”.

فسّر بعض المؤرخين هذا النقش بأنه إشارة إلى أن المستعمرين غادروا للعيش مع قبيلة الكرواتوي، وهم السكان الأصليون الذين كانت تربطهم علاقة ودية نسبيًا مع الإنجليز.

وتقع مستوطنتهم في جزيرة هاتيراس، على بُعد نحو 80 كيلومترًا إلى الجنوب. لكن غياب أي دليل مادي مباشر حال دون تأكيد هذا السيناريو لعقود طويلة، تاركًا المجال لتكهنات كثيرة عن مصير المستعمرين، تراوحت بين تعرضهم لمذبحة، أو هجوم من الإسبان، أو مرض مميت، أو حتى غرقهم في محاولة للعودة إلى إنجلترا.

اقرأ أيضًا

«عملية السندور» الهند تشن هجومًا على باكستان والعالم يخشى الحرب النووية

قصة اختفاء مستعمرة رونوك

قصة اختفاء مستعمرة رونوك ألهمت عددًا لا يحصى من الروايات، والمسرحيات، والأفلام، وأثارت نقاشات واسعة حول العلاقة بين المستعمرين الأوروبيين والسكان الأصليين، قبل عقود من وصول مستوطني جيمستاون أو حجاج “ماي فلاور”.

وكانت فيرجينيا دير، أول طفلة إنجليزية وُلدت في أمريكا الشمالية، إحدى أبرز الشخصيات الرمزية في هذه القصص. وهي حفيدة الحاكم جون وايت، وُلدت في أغسطس 1587، وسُمّيت تيمنًا بالملكة إليزابيث الأولى.

تشمل هذه الملحمة التاريخية أيضًا شخصيات مثل السير والتر رالي، الممول الأساسي للبعثتين الاستيطانيتين، والسير فرانسيس دريك، والملكة إليزابيث نفسها، وحتى بوكاهونتاس، ابنة أحد زعماء القبائل المجاورة.

العالمان مارك هورتون وسكوت داوسون، اللذان يدرسان موقع جزيرة هاتيراس منذ أكثر من عقد، يعتقدان الآن أنهما توصلا إلى الإجابة النهائية.

وخلال عمليات التنقيب التي قاما بها قرب بلدة بوكستون، عثرا على كمية كبيرة من رقائق “حراشف المطرقة”، وهي بقايا عملية حدادة كان المستوطنون الإنجليز يمارسونها، لكنها لم تكن معروفة بين السكان الأصليين.

ويؤكد هورتون، أستاذ علم الآثار في الجامعة الملكية الزراعية بالمملكة المتحدة، أن هذه الأدلة تُظهر بشكل قاطع أن بعض المستعمرين الإنجليز عاشوا في جزيرة هاتيراس واندمجوا في المجتمع الكرواتوي.

يقول هورتون: “حراشف المطرقة دليل قاطع على أن مستوطني رونوك لم يُفنوا أو يغادروا دون أثر، بل اندمجوا في مجتمع السكان الأصليين”، مشيرًا إلى أن هذا الاكتشاف يُنهي اللغز الذي حيّر المؤرخين والخيال الشعبي الأميركي لقرون طويلة.

وكان الحاكم جون وايت، الذي قاد المستعمرة عام 1587، قد وضع خطة بديلة في حال اضطر المستعمرون إلى مغادرة موقعهم، حيث أوصى بحفر وجهتهم التالية على جذوع الأشجار.

وهذا ما حدث بالفعل، إذ نُقشت كلمة “كرواتوي” على عمود خشبي، غير أن الظروف الجوية السيئة حالت دون عودة وايت لاحقًا للبحث في جزيرة هاتيراس.

ومنذ ذلك الحين، تناقل المستكشفون، ورجال البلاط، والمؤرخون روايات متباينة عن مصير المستعمرين.

روايات متباينة عن مصير المستعمرين

بعض التقارير التي نُقلت لاحقًا عن جون سميث، قائد مستوطنة جيمستاون، تشير إلى أن قبيلة معادية هجمت على المستعمرة وقتلت سكانها.

فيما قالت روايات أخرى إن المستعمرين تفرقوا بين القبائل المحلية، أو أبحروا إلى الداخل واستقروا في أماكن بعيدة مثل مقاطعة بيرتي، التي تظهر في خريطة رسمها وايت عام 1585 على شكل رسم تخطيطي لحصن في تلك المنطقة.

واكتشف علماء الآثار لاحقًا قطعًا أثرية مثل فخاريات وأسلحة في تلك المنطقة، لكن لم يتمكنوا من تأكيد علاقتها المباشرة بمستوطنة رونوك، لعدم وضوح تاريخها بدقة.

منذ القرن التاسع عشر، جذبت قصة المستعمرة المفقودة اهتمام الكتّاب والمسرحيين. أصبحت فيرجينيا دير رمزًا للنقاء الأوروبي في الروايات الرومانسية، حتى أن بعض القصص جعلتها والدة بوكاهونتاس، في مزج أسطوري بين الحقيقة والخيال.

وفي عام 1937، حضر الرئيس فرانكلين روزفلت عرضًا مسرحيًا خارجيًا بعنوان “المستعمرة المفقودة”، لا يزال يُعرض حتى اليوم في جزيرة رونوك، مما يؤكد حضور الأسطورة في الوعي الثقافي الأميركي.

لكن العالمان داوسون وهورتون، في مسعاهما لكشف الحقيقة، عادا إلى حيث بدأت القصة: نقش “كرواتوي”. وخلال أكثر من عقد من الحفريات، عثرا على أدلة تشمل أسلحة، وشعار وردة تيودور الملكية، وعملات معدنية أوروبية – جميعها تشير إلى وجود إنجليزي في جزيرة هاتيراس. تُعرض هذه المكتشفات حاليًا في متحف داوسون للمستعمرة المفقودة في بوكستون.

ورغم أن الرقائق المعدنية الصغيرة قد تبدو أقل جاذبية من الأسلحة والرموز الملكية، إلا أن علماء الآثار يعتبرونها أهم دليل حتى الآن، إذ تشير إلى وجود حدادة نشطة، ما يُرجّح أن المستعمرين عاشوا هناك لبعض الوقت في انتظار إنقاذ لم يصل قط.

ويستند العالمان أيضًا إلى رواية المستكشف الإنجليزي جون لوسون، الذي زار هاتيراس في أوائل القرن الثامن عشر، ودوّن أنه التقى بسكان محليين ذوي عيون رمادية، كانوا يرتدون ملابس إنجليزية ويتحدثون عن أسلاف بيض ودين مسيحي.

يؤكد سكوت داوسون، رئيس الجمعية الأثرية الكرواتية وأحد أبناء جزيرة هاتيراس، أن المستوطنين واجهوا ظروفًا قاسية من نقص الغذاء وعداء بعض القبائل، فاختاروا الانضمام إلى الكرواتيين الذين كانت علاقتهم بهم جيدة.

ويقول داوسون: “لقد انتهى اللغز. القصة التي عاشت قرونًا كانت، في الواقع، حملة تسويقية أُحيطت بهالة من الغموض. الأدلة التاريخية واضحة، والآن لدينا دليل تجريبي يؤكدها”.