يعد طريق الحج المصري واحدًا من أبرز وأهم الطرق التاريخية التي سلكها المسلمون للوصول إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، وقد وصفه المؤرخون والرحالة بأنه من بين سبعة طرق رئيسية ربطت أرجاء العالم الإسلامي بالجزيرة العربية.
وتضم هذه الطرق: طريق الحج الكوفي، البصري، الشامي، المصري، اليمني الساحلي، اليمني الداخلي، والعُماني.
ولطالما شكل طريق الحج المصري شاهدًا حيًا على التفاعل الحضاري والديني، إذ لم يكن مقتصرًا على حجاج مصر فحسب، بل سلكه أيضًا حجاج المغرب العربي، والأندلس، وغرب أفريقيا منذ بدايات العصر الإسلامي.
طريق الحج المصري
ورغم أن الرحلة عبر الطريق المصري كانت ذات طابع ديني وروحي في جوهرها، إلا أنها اتخذت بعدًا حضاريًا وثقافيًا وأثريًا عميقًا، جعلها من المسارات التي تقدمت مصر بطلب لإدراجها ضمن قائمة التراث العالمي بمنظمة اليونسكو، وهو ما تم بالفعل بإدراج الطريق على القائمة التمهيدية للتراث العالمي عام 2015، في إطار تعاون مشترك بين مصر والمملكة العربية السعودية.
المؤرخون قسّموا المراحل الزمنية التي مر بها طريق الحج المصري إلى أربع فترات رئيسية: الأولى من الفتح الإسلامي لمصر حتى منتصف القرن الخامس الهجري، حيث كان هناك مساران: أحدهما بري عبر سيناء، والآخر ساحلي.
أما المرحلة الثانية، فبدأت عام 443 هـ حتى 666 هـ، وتميزت باستخدام طريق “عيذاب”، حيث كان الحجاج يسافرون عبر نهر النيل إلى قوص في صعيد مصر، ومن ثم ينطلقون بالقوافل إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر، ومنه عبر البحر إلى جدة.
المرحلة الثالثة (667 هـ – 1301 هـ) شهدت العودة إلى استخدام الطريق البري الساحلي، في حين تم الاستغناء عنه نهائيًا في المرحلة الرابعة (من 1301 هـ وحتى العصر الحديث)، ليصبح الطريق البحري عبر ميناء السويس هو المعتمد.
الرحلة عبر الطريق المصري
ويؤكد الدكتور محمد حمزة الحداد، عميد كلية الآثار السابق بجامعة القاهرة، أن الطريق المصري القديم قُسم جغرافيًا إلى ثلاث مراحل: تبدأ من “بركة الحاج”، التي تقع اليوم في قرية “البركة” التابعة لحي المرج بالقاهرة، وتمر بمنطقتي “البويب” و”عجرود” بطول 150 كيلومترًا.
ثم تمتد المرحلة الثانية من “عجرود” إلى مدينة “نخل” بوسط سيناء، بطول مماثل، وصولاً إلى المرحلة الثالثة من “نخل” إلى “أيلة” (العقبة حاليًا) بطول 200 كيلومتر. وكانت كل مرحلة تُقطع خلال نحو ثلاثة أيام، ليصل الحجاج إلى العقبة في تسعة أيام تقريبًا.
قوافل الحجاج لم تكن تتحرك دون حماية، فقد كانت ترافقها قوات نظامية لتأمينها، بالإضافة إلى فرسان من القبائل العربية المخصصة لحراسة القوافل. وتشير النقوش التي ما زالت محفوظة حتى الآن – مثل نقش السلطان الغوري في منطقة “عراقيب البغلة” – إلى أهمية هذا الطريق، إذ يحتوي النقش على نصوص قرآنية وتوثيق لجهود السلطان في تعميره.
وتكمن أهمية طريق “قوص – عيذاب” في كونه أول مسار سلكه حجاج مصر والمغرب العربي، وفق ما يوضحه الدكتور عبدالرحيم ريحان، خبير الآثار وعضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة.
فقد بدأ استخدام هذا الطريق بين عامي 450 و665 هـ (1058 – 1266م)، حيث كان الحجاج يتجهون إلى قوص بصعيد مصر، ثم يواصلون إلى ميناء عيذاب لركوب السفن إلى جدة، منتظرين أحيانًا لمدة شهرين لحين توافر السفن.
الباحث المتخصص في طرق الحج
ويشرح الباحث المتخصص في طرق الحج الدكتور سامي البياضي أن الطريق كان يتمتع بروافد مغذية من دول المغرب العربي وبلدان غرب أفريقيا. كان الحجاج يتجمعون في بركة الحاج بالقاهرة، ومنها ينطلقون مع قافلة المحمل المصري.
وتعددت المسارات البحرية والبريّة المؤدية إلى مصر: فالمسار البحري يبدأ من موانئ شمال أفريقيا والأندلس وصولًا إلى الإسكندرية، ومن ثم عبر النيل إلى القاهرة. أما المسارات البرية، فإما أن تكون ساحلية بمحاذاة البحر المتوسط، أو داخلية عبر الواحات.
وتعددت قوافل الحج المغاربية المرتبطة بهذا الطريق، ومنها ركب الحاج الصالحي، والشنقيطي، والفاسي، والطرابلسي، والسجلماسي، والمراكشي، والولاتي، والجزائري، والتونسي. جميعها كانت تنتهي في القاهرة، ثم تتجه جنوبًا إلى السويس، إما لاستكمال الرحلة بحرًا إلى جدة، أو برًا عبر سيناء.
وتؤكد المصادر التاريخية، وعلى رأسها ما ذكره المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه “الخطط”، أن قوافل حجاج المغرب الإسلامي كانت تبدأ رحلتها من مراكش، فاس، وسلا، وأحيانًا من مناطق السنغال، ثم تمر بمدن كالمهدية، وصفاقس، وسوسة، وطرابلس، وبرقة، وطبرق، قبل دخول الأراضي المصرية. ومن الإسكندرية أو رشيد، تتابع القوافل مسيرها إلى القاهرة، ومن ثم إلى مكة المكرمة.
بهذا، لا يُعتبر درب الحج المصري مجرد ممر للحجيج، بل هو مسار للتواصل الثقافي والتجاري والديني بين شعوب وأقاليم إسلامية متعددة، يجسد عمق العلاقات بين شمال أفريقيا، ومصر، والحجاز، ويخلّد ذاكرة رحلة إيمانية وإنسانية ممتدة على مدى قرون.