بالقرب من سفح جبال “ليشان” في الصين، يقع واحد من أعظم الاكتشافات الأثرية في العصر الحديث، إنه ضريح الإمبراطور الصيني الأول تشين شي هوانغ، مؤسس أول دولة موحدة في تاريخ الصين.
ويُعد هذا الموقع الأثري من عجائب الدنيا السبع الحديثة، ويضم جيشًا هائلًا من التماثيل الطينية بالحجم الطبيعي، عُرف عالميًا باسم “جيش التيراكوتا“.
وقد بُني هذا الجيش لمرافقة الإمبراطور في رحلته إلى العالم الآخر وحمايته بعد الموت، ضمن مجمع جنائزي هائل استغرق إنشاؤه عقودًا، وشارك في بنائه مئات الآلاف من العمال.
وفيما يلي خمس حقائق قد لا يعرفها كثيرون عن هذا الجيش الطيني الفريد، الذي لا يزال يثير دهشة العلماء والزوّار على حد سواء:
5 حقائق عن جيش التيراكوتا في قلب الصين
1. أكبر مشروع دفن في العالم.. وربما لم يكتمل أبدًا
في مارس من عام 1974، وبينما كان عدد من المزارعين الصينيين يحفرون بئرًا في أحد الحقول الزراعية الواقعة على بُعد حوالي 30 كيلومترًا شرق مدينة شيآن، عثروا على حفرة تحتوي على آلاف من التماثيل الطينية بالحجم الطبيعي.
ما لبثت أن تأكدت السلطات الأثرية من أن الموقع هو جزء من الضريح الأسطوري للإمبراطور تشين، وبدأت أعمال التنقيب المكثفة التي كشفت لاحقًا عن مجمع جنائزي ضخم تبلغ مساحته نحو 20 ميلًا مربعًا.
ويضم الموقع ما يُقدّر بنحو 8000 جندي طيني، إضافة إلى تماثيل لخيول وعربات ومبانٍ جنائزية وقصر ومكاتب ومستودعات واسطبلات. كما تم اكتشاف أربع حفر رئيسية، إحداها تضم التشكيل القتالي الرئيسي لجنود التيراكوتا، وأخرى تحتوي على وحدات المشاة وسلاح الفرسان، وثالثة تضم الضباط والعربات، في حين ظلت الحفرة الرابعة فارغة، وهو ما رجّحه العلماء كدليل على أن المشروع لم يُستكمل بالكامل عند وفاة الإمبراطور.
2. تشين شي هوانغ… مؤسس الدولة الصينية الموحدة وحاكم لا يعرف الرحمة
يُنسب إلى الإمبراطور تشين شي هوانغ توحيد الصين عام 221 قبل الميلاد بعد قرون من الحروب الأهلية والمعارك بين الممالك المتنازعة.
وقد أسس أول حكومة مركزية موحدة، وجعل من مدينة شيانيانغ عاصمة لدولته الجديدة. ومن أبرز إنجازاته إدخال نظام كتابة موحد، وتوحيد الأوزان والمقاييس، وبناء شبكة طرق وقنوات معقدة، إلى جانب بدء العمل في سور الصين العظيم.
غير أن سجل الإمبراطور لم يكن خاليًا من القسوة، إذ عُرف ببطشه بالمعارضين والمفكرين الذين خالفوا أفكاره، وأمر بإعدام عدد كبير من العلماء، بل ودفن بعضهم أحياء.
كما لم يُعر أي اهتمام لحياة العمال الذين شاركوا في تشييد مشاريعه العملاقة، بمن فيهم من بنوا ضريحه الجنائزي.
وتشير الروايات إلى أن عددًا كبيرًا من هؤلاء العمال لقوا حتفهم أثناء العمل، بينما قُتل البعض الآخر عمدًا بعد الانتهاء من المشروع بهدف الحفاظ على سرية الموقع ومحتوياته.
3. كل جندي في جيش التيراكوتا يملك ملامح وجه مختلفة
يُعد جيش التيراكوتا من أبرز ملامح الدفن لدى الإمبراطور تشين، وقد صُنع بعناية مذهلة تُظهر المستوى الرفيع من الحرفية في تلك الحقبة.
فعلى الرغم من استخدام قوالب جاهزة لصناعة الأجساد والأطراف، إلا أن الفنانين كانوا يُضيفون تفاصيل سطحية فريدة لكل تمثال، خصوصًا في ملامح الوجه وتسريحات الشعر، مما يجعل كل جندي فريدًا في هيئته وتعبيراته.
وتشير الدراسات إلى أن صناع التماثيل استخدموا ثمانية قوالب أساسية للرؤوس، لكنهم أضفوا تعديلات يدوية فردية على كل منها، بما في ذلك الشوارب، وحجم العينين، وشكل الفك والأنف، ما جعل كل تمثال يتمتع بشخصية مستقلة رغم وحدة الزي والموقف العسكري.
كما أن بعض التماثيل تعرضت للتخريب أو التفكيك بعد وفاة الإمبراطور بفترة وجيزة، لكنها رُممت على مدى سنوات طويلة من العمل الأثري الدقيق.
4. الأسلحة الطينية القديمة كانت محفوظة بشكل مذهل
لم يقتصر جيش التيراكوتا على التماثيل فقط، بل شمل أيضًا ترسانة من الأسلحة البرونزية الحقيقية التي عُثر عليها في الحفر، وتضمنت سيوفًا، ورماحًا، ورؤوس سهام، وأقواسًا، وفؤوسًا، وكلها ظلت في حالة حفظ جيدة رغم مضي أكثر من ألفي عام على دفنها.
ويُعزى ذلك إلى استخدام طلاء واقٍ من الكروم، وهي تقنية حديثة نسبيًا لم تُستخدم صناعيًا إلا في القرن العشرين في كل من ألمانيا (عام 1937) والولايات المتحدة (عام 1950).
هذا الاكتشاف دفع علماء المعادن والمؤرخين لإعادة النظر في مدى تطور التكنولوجيا الصينية القديمة، إذ أن القدرة على الحفاظ على البرونز من التآكل بهذا الشكل المتقن تشير إلى فهم متقدم جدًا للمعادن لدى الحرفيين الصينيين في تلك الفترة.
اقرأ أيضًا:
منشأة فوردو النووية الحصينة.. لماذا تعجز إسرائيل عن ضرب قلب البرنامج الإيراني؟
5. قبر الإمبراطور نفسه لا يزال مغلقًا حتى اليوم
رغم مرور أكثر من 40 عامًا على اكتشاف الموقع، فإن القبر الرئيسي للإمبراطور تشين شي هوانغ لم يُفتح حتى الآن، ولم يُنقّب منه سوى أقل من 1%.
وقد منعت المخاوف المرتبطة بسلامة المكتشفات الأثرية من إجراء أي حفر عميق حتى اليوم، إذ يخشى العلماء من أن يؤدي فتح القبر إلى تدمير محتوياته بفعل التعرض المفاجئ للهواء والضوء، وهو ما حدث في حالات مشابهة من قبل.
كما أن الروايات التاريخية، وعلى رأسها ما كتبه المؤرخ الصيني الشهير سيما تشيان في القرن الأول قبل الميلاد، تشير إلى أن أرضية القبر كانت تحتوي على أنهار صناعية من الزئبق تحاكي الجغرافيا الطبيعية، وهو ما يعرض المنقبين لمخاطر صحية جسيمة.
وفي عام 2005، أثبتت دراسة علمية أجريت على 4000 عينة من التربة في محيط التل الجنائزي وجود نسب مرتفعة من الزئبق، ما يعزز الرواية القديمة ويزيد من تردد السلطات في الشروع بأعمال تنقيب داخلية.
ورغم هذا التردد، لا يزال ضريح الإمبراطور تشين شي هوانغ واحدًا من أكثر المواقع الأثرية إثارة في العالم، بما يحمله من أسرار لم تُكشف بعد، ويُتوقع أن يُحدث فتح قبره يومًا ما ثورة حقيقية في فهمنا لتاريخ الصين القديم وحضارتها المتقدمة.