في تطور دبلوماسي لافت، عاد ملف الأزمة الأوكرانية ليتصدر المشهد الدولي بعد لقاء نادر جمع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بنظيره الروسي سيرغي لافروف في ماليزيا. اللقاء، رغم أنه لم يسفر عن اختراقات ملموسة، أعاد فتح قنوات التواصل بين واشنطن وموسكو بعد سنوات من القطيعة، خصوصًا في ظل مقاربة جديدة طرحتها موسكو لإنهاء النزاع، وسط موقف أميركي متأرجح بين الرغبة في السلام وضغوط الداخل والخارج.
تقارب حذر أم مناورة سياسية؟
وصف أستاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو نزار بوش، حسب “سكاي نيوز عربية”، اللقاء بأنه “تحول دبلوماسي مهم”، معتبرًا أن التواصل المباشر بين وزراء الخارجية يمثل بحد ذاته خطوة إيجابية مهما كان الخلاف عميقًا. وأشار إلى أن موسكو قدّمت في الكواليس مقترحًا اقتصاديًا مغريًا يتضمن عودة الشركات الأميركية إلى روسيا ومناطق شرق أوكرانيا الغنية بالمعادن النادرة، مقابل شراكة استثمارية قد تعوض خسائر العقوبات وتحقق لواشنطن مكاسب اقتصادية ضخمة.
مقاربة موسكو: شراكة اقتصادية لاستقرار سياسي
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفقًا لبوش، أبدى استعدادًا للتعاون الاقتصادي مع إدارة ترامب، معتبرًا أن ذلك “أنفع للولايات المتحدة من استمرار نزيف الحرب”. هذه الاستراتيجية تنسجم مع رؤية ترامب الاقتصادية، الذي يفضّل تقليص الإنفاق العسكري الخارجي لصالح استثمارات داخلية.
ترامب بين صورة رجل السلام وضغوط الداخل
من جانبه، أكد أستاذ العلوم السياسية روبرت رابيل، أن ترامب “ينظر إلى النزاع الأوكراني من زاوية المصالح القومية وليس من منظور أيديولوجي”، موضحًا أنه يدعم تسليح أوكرانيا بأسلحة دفاعية فقط، ويرفض التصعيد المباشر ضد روسيا. إلا أن رابيل أشار إلى أن ترامب يواجه عقبات داخلية كبيرة، أبرزها ضغوط الكونغرس، اللوبيات المتشددة، وبعض الأصوات الجمهورية الرافضة لأي تقارب مع موسكو، حسب سكاي نيوز عربية.
ملفات معقدة على طاولة التسوية
رغم الحديث عن مقاربة جديدة، يبقى ملفا القرم ودونباس العقبة الأبرز أمام أي تسوية. يرى رابيل أن القرم يجب أن تبقى مع روسيا باعتبار ذلك أمرًا واقعًا، بينما يُطرح في دونباس سيناريو يشبه نموذج كردستان العراق: حكم ذاتي موسع ضمن الدولة الأوكرانية. لكن موسكو، وفقًا لبوش، ترفض أي صيغة لا تنطلق من نتائج الميدان، معتبرة التنازل تهديدًا وجوديًا قد يفجر أزمة داخلية في روسيا.
“فوبيا روسيا” وتحديات أوروبية
ولا يقتصر التحدي أمام ترامب على الداخل الأميركي فحسب؛ إذ يواجه أيضًا ضغوطًا من حلفائه الأوروبيين، خاصة في برلين وباريس ولندن، حيث تسود ما أسماه بوش “فوبيا روسية” داخل دوائر صنع القرار. هذه الدول تخشى من أي تفاهم قد يظهر بوتين وترامب كـ”صانعي سلام”، ما قد يربك توازنات حلف الناتو. ويشير رابيل إلى أن أوروبا تعمل بالتوازي على زيادة ميزانيات الدفاع والتلويح بخيارات أمنية مستقلة، وهو ما يعقد جهود واشنطن للتوصل إلى تسوية.
رسائل متناقضة.. ومخاوف روسية
في موسكو، يُنظر إلى مواقف ترامب بعين الريبة بسبب ما يعتبره الروس “ازدواجية في الرسائل”: إذ يُرسل إشارات لوقف الدعم عن كييف ثم يعود ليؤكد الاستمرار في تسليحها. رابيل يفسر ذلك بأنه انعكاس لتعقيدات النظام السياسي الأميركي، حيث يواجه أي رئيس ضغوطًا متزامنة من الكونغرس، الإعلام، والبيروقراطية.
أزمة أوكرانيا.. اختبار للإرث السياسي
يشدد رابيل على أن إنهاء النزاع الأوكراني يمثل جزءًا أساسيًا من إرث ترامب السياسي، لاسيما أنه وعد بذلك خلال حملته الرئاسية. لكنه يرى أن نجاح هذه المساعي يتطلب مرونة واضحة من الجانب الروسي، خصوصًا في ما يتعلق بوقف إطلاق النار كخطوة أولى.
في المقابل، يذكّر بوش بأن موسكو، رغم انفتاحها النسبي، تراهن أولًا وأخيرًا على نفسها، وترفض ربط أمنها القومي بأي تفاهمات مؤقتة مع الغرب.

في انتظار القرار الصعب
مع عودة الدبلوماسية الأميركية–الروسية إلى مسار الحوار، تتجه الأنظار إلى البيت الأبيض لمعرفة ما إذا كان ترامب سيفلح في تحقيق اختراق دبلوماسي يُنهي الحرب، أم أن الضغوط الداخلية والخارجية ستقيّده. وبين حسابات الربح والخسارة، تبقى الأزمة الأوكرانية اختبارًا حقيقيًا لإرادة القادة، ولقدرة ترامب على ترجمة وعوده إلى واقع.
وبينما لا يبدو الحل قريبًا، يظل المؤكد أن النزاع في أوكرانيا لم يعد مجرد صراع عسكري، بل تحوّل إلى ساحة لتقاطع المصالح، وامتحان صعب لمستقبل التحالفات الدولية.