في قلب أوروبا، حيث اعتادت العواصم أن تنظر إلى برلين باعتبارها مرادفًا للاستقرار والريادة الاقتصادية، تدق اليوم أجراس إنذار لم تكن مألوفة من قبل. ألمانيا، التي شكّلت لعقود “الماكينة” التي تدور بها عجلة الاقتصاد الأوروبي، تجد نفسها فجأة في مواجهة أزمة تبدو أعمق من مجرد تراجع ظرفي.
لم تعد مؤشرات النمو كما كانت، ولا الصادرات تحتفظ بزخمها المعتاد، ولا الصناعات الألمانية قادرة على مجاراة نسق المنافسة العالمية المتسارعة. وبينما كانت الدول الأخرى تلهث للحاق بالنموذج الألماني، باتت برلين مضطرة اليوم لإعادة النظر في أسس هذا النموذج نفسه. إنها لحظة مفصلية في تاريخ الاقتصاد الألماني، لحظة تتطلب مواجهة أسئلة صعبة، وأجوبة أكثر جرأة: هل لا تزال ألمانيا قادرة على قيادة أوروبا؟ أم أن زمن “المعجزة الاقتصادية” قد شارف على الانتهاء؟.
هل اقتربت نهاية “الماكينة الاقتصادية”
في السنوات الأخيرة، بدأت تظهر ملامح أزمة عميقة داخل “الماكينة الألمانية“، تتجاوز مجرد تباطؤ مؤقت أو تأثيرات ظرفية، لتكشف عن خلل هيكلي قد يعيد تشكيل مستقبل الاقتصاد الألماني برمّته. فبحسب تقرير حديث صادر عن البنك المركزي الألماني، تراجعت حصة ألمانيا من الصادرات العالمية من 9% عام 2021 إلى 6.4% في 2024، ما يعني فقدان نحو 18% من مكانتها التصديرية خلال ثلاث سنوات فقط. هذا الانحدار المقلق لم يأتِ من فراغ، بل يعكس أزمة متعددة الأبعاد تعصف بالبنية الاقتصادية للبلاد.

قطاع السيارات، الذي يُعد واجهة الصناعة الألمانية لعقود، شهد هو الآخر تراجعًا من 20% إلى 18% من الحصة العالمية بين عامي 2021 و2023. ويعزى هذا الانخفاض إلى مجموعة من العوامل، في مقدمتها المنافسة الشرسة من شركات آسيوية، خاصة في مجال السيارات الكهربائية والتقنيات الذكية، إضافة إلى ارتفاع التكاليف وضعف المرونة في مواجهة التحولات السوقية السريعة.
ويؤكد الدكتور ريان رسول، الباحث الاقتصادي في جامعة ستوكهولم، أن جوهر الأزمة ألماني بامتياز. ففي لقاء مع برنامج “بزنس مع لبنى” على قناة سكاي نيوز عربية، أوضح أن الأزمة لا ترتبط فقط بتراجع الطلب العالمي أو التوترات الجيوسياسية، بل ترتكز على مشاكل داخلية مزمنة مثل ارتفاع أسعار الطاقة، وتعقيد الإجراءات الإدارية، ونقص الكفاءات، والأهم من ذلك، التباطؤ في التحول الرقمي. ويذهب رسول إلى وصف ما يحدث بـ”تآكل داخلي صامت” يضعف قدرة ألمانيا على التكيف مع متغيرات الاقتصاد العالمي.

من جهة أخرى، أدت التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى تضييق هامش المناورة أمام برلين، التي لطالما حاولت الحفاظ على توازن دقيق بين شراكتها الاقتصادية مع بكين وتحالفها السياسي مع واشنطن. ومع تصاعد الحرب التجارية، باتت ألمانيا عرضة لاضطرابات سلاسل الإمداد والقيود الجمركية، ما أثّر سلبًا على صناعاتها المعتمدة على التجارة الحرة والاستقرار العالمي.
كما يُعد التأخر الرقمي أحد أبرز نقاط الضعف في النموذج الألماني الحالي. فبينما تتقدم دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان بخطى سريعة نحو اعتماد الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، لا تزال كبرى الشركات الألمانية، مثل سيمنس، تترنح في محاولة لمواكبة هذه الثورة التكنولوجية. كما أن بيئة الأعمال في ألمانيا باتت أقل جذبًا للاستثمارات، بسبب القيود التنظيمية وتعقيد القوانين، ما دفع شركات كبرى مثل أديداس وبوما إلى نقل جزء من أنشطتها الإنتاجية إلى الخارج.

وبالحديث عن العامل الديموغرافي، حيث تواجه ألمانيا تحدياً آخر يتمثل في شيخوخة السكان ونقص الكفاءات في سوق العمل. رغم جهود الحكومة لاستقطاب مهاجرين ذوي مؤهلات، فإن البيروقراطية الصارمة تعيق تحقيق هذا الهدف بالسرعة المطلوبة.
اقرأ أيضا.. مكتب الإحصاء الاتحادي: ارتفاع ملحوظ في حالات إفلاس الشركات بألمانيا خلال يوليو
في ظل هذه المعطيات، تجد ألمانيا نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تعيد صياغة نموذجها الاقتصادي جذريًا، مستفيدة من قدراتها الصناعية والتكنولوجية لتجاوز العقبات البنيوية، أو أن تواصل الانحدار التدريجي في ظل عالم لا ينتظر من يتأخر عن مواكبته.