في صباح يوم خريفي من أغسطس عام 1969، استيقظت القدس على لهبٍ أحمر يتصاعد من قلبها. المسجد الأقصى يحترق. ليست هذه جملة عابرة، بل مشهد مأساوي خُلد في ذاكرة أمة بأكملها. متطرف يهودي أسترالي يُدعى مايكل دينيس روهان تسلل إلى داخل المسجد، وسكب البنزين وأشعل النار في الجناح الشرقي، مستهدفًا قِبلة المسلمين الأولى، ومُحاولًا إضرام النار في روح مدينة بأكملها. اشتعل السجاد، التهمت ألسنة اللهب المصاحف، احترقت النوافذ الملوّنة، وتهاوى السقف التاريخي، بينما كانت سلطات الاحتلال تتعمّد تأخير الإطفاء وقطع المياه، وكأنما كانت ترعى النار لا تُخمدها.

حريق لم ينطفئ بعد
المشهد كان أكبر من مجرد حريق. كان محاولة ممنهجة لتدمير رمز، ومحو معلم ديني وتاريخي وسياسي من الوجود. ولكن رغم الخذلان والصمت، لم يقف الفلسطينيون متفرجين. من كل مدن الضفة، اندفعت سيارات الإطفاء العربية، من بيت لحم، الخليل، ورام الله، تشق الحصار وتنقذ ما تبقى من قدسية المكان، وكأنهم كانوا يُطفئون النيران بأرواحهم لا بالمياه فقط. الحريق لم ينتهِ، بل تحوّل. تغيّر شكله ولباسه، لكنه استمر، بشكل يومي، عبر اقتحامات المستوطنين، وتحويل ساحات الأقصى إلى ممرات لصلوات تلمودية تُقام تحت حماية جنود الاحتلال، وتحت أعينٍ ترى ولا تتحرك.

منذ عام 2003، أصبح دخول المستوطنين للمسجد الأقصى طقسًا شبه يومي، بحماية جيش الاحتلال، وفي مشهد يتحدى إرادة الفلسطينيين والقانون الدولي معًا. بدأوا بالتجول، ثم الصلاة، ثم إدخال رموزهم التلمودية، من شمعدانات وأبواق ولفائف توراة، وصولًا إلى قرابين حيوانية، في محاولة واضحة لفرض أمر واقع جديد، يهدف إلى تقسيم الأقصى زمانيًا ومكانيًا، وتقويض هويته الإسلامية.
56 عامًا ينادي فيه الأقصى بالوحدة العربية
ذاكرة الأقصى مثقلة بالمآسي. في كل عقد من الزمن، كانت هناك محاولة جديدة. رصاص في ساحات المسجد، أنفاق تحفر في جوفه، مؤتمرات حاخامية لوضع خطط السيطرة عليه، محاولات تفجير، واقتحامات لجماعات متطرفة كـ”أمناء جبل الهيكل”. هذه ليست أحداثًا معزولة، بل فصول من مخطط طويل يسعى لتحويل المسجد الأقصى من رمز جامع للمسلمين، إلى ساحة صراع تُفرض فيها الرواية الصهيونية بالقوة والتزييف.
أما القدس، فهي الأخرى تعاني الخنق اليومي. منذ احتلال شطرها الشرقي عام 1967، تسير سياسة “الأسرلة” بخطى ثابتة، وتهدف إلى محو معالم المدينة العربية والإسلامية. البيوت تُهدم، الأحياء تُهوّد، المؤسسات تُغلق، والمقدسي يُحاصر بين الجدار والاستيطان والإبعاد. في كل زاوية، محاولة طمس، وفي كل حيّ، صراع من أجل البقاء.
وفي هذا العام، تتزامن ذكرى حريق الأقصى مع نارٍ أخرى لم تنطفئ، بل ازدادت اشتعالًا في غزة. عدوان إسرائيلي مستمر منذ أشهر، قصف لا يهدأ، عشرات الآلاف من الشهداء، معظمهم من المدنيين، أطفال ونساء وعائلات بأكملها طُمست تحت الأنقاض. ما يحدث في غزة هو امتداد لنفس المشروع الذي استهدف الأقصى: محاولة شاملة لإبادة الشعب الفلسطيني، وطمس هويته، واجتثاثه من أرضه، عبر الحرب والنار والتهجير.

ورغم كل ذلك، لا يزال الفلسطينيون هنا. لا يزال المرابطون والمرابطات يتصدّون بأجسادهم للاقتحامات، ولا يزال الأطفال يرشقون الحجارة في وجه البنادق، ولا تزال الأمهات يُعلّمن أبناءهن أن الأقصى ليس مكانًا فقط، بل شرفًا وهويةً وحقًا لا يُباع. ما زال الأذان يُرفع من فوق القباب التي حاولوا إسكاتها، وما زالت قلوب المسلمين في كل مكان تنبض باسم القدس، وتحمل في وجدانها صورة الأقصى حيًا، مهما حاولوا طمسه أو محوه.
بعد 56 عامًا من الحريق، ما زال الجمر يتّقد تحت الرماد. لم ينتهِ الحريق، لكنه لم ينتصر. لأن هذا المكان، الذي اجتمع على حبه مليار ونصف مسلم، لن يكون يومًا إلا كما كان… عربيًا، إسلاميًا، فلسطينيًا.