رغم التقدم الكبير الذي حققته البشرية في مجالات الطب والوقاية، لا تزال بعض الخرافات الطبية تجد طريقها إلى الرأي العام، ومن أبرزها الشائعة التي تزعم وجود علاقة بين اللقاحات وإصابة الأطفال باضطراب طيف التوحد، وهي مزاعم نفتها الدراسات الطبية مرارًا وتكرارًا، لكن صداها لا يزال يتردد حتى اليوم.
جذور الشائعة: دراسة مزيفة في عام 1998
تعود قصة هذه الخرافة إلى عام 1998، عندما نشر الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد دراسة في إحدى المجلات الطبية، زعم فيها وجود ارتباط بين لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (MMR) وإصابة الأطفال بالتوحد.
لاحقًا كشفت التحقيقات أن الدراسة تفتقر إلى النزاهة العلمية وتعتمد على عينة صغيرة وغير دقيقة. وبسبب التلاعب بالبيانات، سُحب البحث رسميًا من المجلة، كما جُرّد صاحبه من رخصة ممارسة المهنة. ومع ذلك، تركت تلك الدراسة المزيفة أثرًا عميقًا غذّى الشكوك لدى بعض الأهالي وأعطى دفعة قوية لحركات مناهضة التطعيم حول العالم.
تصريحات مثيرة للجدل عام 2018
عاد الجدل مجددًا عام 2018 عندما صرّح عضو الكونغرس الأميركي المنتخب حينها مارك غرين – وهو طبيب أيضًا – بأن المواد الحافظة المستخدمة في بعض اللقاحات “قد تكون سببًا في تزايد حالات التوحد”.
لكن هذه التصريحات واجهت موجة من النفي القاطع من الأوساط الطبية، حيث أكدت المنظمات الصحية، مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، أن جميع الدراسات واسعة النطاق لم تجد أي علاقة بين التطعيمات والإصابة بالتوحد.

التوحد وخرافات أخرى
قبل أن يُفهم التوحد كاضطراب عصبي نمائي معقد، ارتبط بالعديد من الخرافات. فالبعض نسبه إلى الصدمات النفسية أو المشاكل الأسرية، فيما اعتقد آخرون أنه نتيجة حوادث مثل سقوط الطفل على رأسه.
حتى ثمانينيات القرن الماضي، كان التوحد يُصنّف أحيانًا على أنه تخلف عقلي أو فصام، ما زاد من اللبس لدى المجتمعات والأسر. ومع تطور الأبحاث، تبيّن أن التوحد مرتبط بعوامل وراثية وبيئية معقدة، ولا علاقة له بالتطعيم أو الممارسات الأسرية.
اقرأ أيضًا:
7 فوائد صحية لكوب من حليب الكركم قبل النوم
الإجماع العلمي: اللقاحات آمنة وضرورية
اليوم، تؤكد مئات المراجعات العلمية وآلاف الدراسات أن اللقاحات آمنة وفعّالة في الوقاية من أمراض قاتلة مثل شلل الأطفال، الحصبة، والدفتيريا، ولا تمت بأي صلة للتوحد.
وتشير الأبحاث إلى أن اضطراب طيف التوحد ناتج عن تفاعل معقد بين العوامل الجينية والبيئية، وهو موضوع لا يزال قيد الدراسة، لكن ما هو مؤكد أن التطعيم ليس ضمن هذه الأسباب.
أهمية التوعية ومواجهة الشائعات
يجمع خبراء الصحة على أن مواجهة هذه الشائعات تتطلب:
الاعتماد على المصادر الطبية الموثوقة.
استشارة الأطباء المتخصصين بدلاً من الانسياق وراء المعلومات المغلوطة.
تعزيز حملات التوعية حول فوائد التطعيم وأهميته في حماية الأطفال والمجتمعات.
ويرى الأطباء أن التردد في أخذ اللقاحات بناءً على شائعات غير مثبتة قد يؤدي إلى انتشار أمراض خطيرة كانت على وشك الاختفاء، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة.
تؤكد الحقائق العلمية أن اللقاحات لا تسبب التوحد، وأن الشائعة التي بدأت عام 1998 لا أساس لها من الصحة. ومع ذلك، فإن انتشار المعلومات المضللة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي ساهم في إطالة عمر هذه الخرافة.
ويبقى الرهان على التثقيف الطبي والوعي المجتمعي لضمان حماية الأجيال القادمة من الأمراض، وللتصدي للمخاوف غير العلمية التي قد تهدد ثقة الناس بأهم إنجازات الطب الحديث.